حسن النيفي
ربما كان أمراً طبيعياً أن يختلف النظر إلى الثورة السورية – كحادثة تاريخية – من خارج الفضاء السوري، عن النظر إليها أو معاينتها من داخل الفضاء ذاته، بل ربما كانت النظرة الخارجية هي الأقدر على تحقيق جانب من الموضوعية إذا كان الناظر أو الدارس يحوز على مقدار كاف من الموضوعية والتجرّد، لكن يبدو أن خذلان ثورة السوريين لم يكن من الجوانب الميدانية والسياسية التي واكبت سيرورتها فحسب، بل من جانب التعريف بماهيتها من حيث هي مُنتَج شعبي عام أيضاً. ولئن كانت مواقف الدول، العربية منها وغير العربية، إنما تتحدّد وفقاً للمصالح حصراً، فإنما من المفترض أن تكون تقييمات ورؤى الباحثين والمفكرين والمؤرخين أكثر نزاهة من السياسيين، باعتبارهم طلّاب حقائق لا مصالح، إلّا أن تماهي رؤى وتصورات أصحاب المصالح مع طلّاب الحقائق يدعو إلى أكثر من تساؤل.
في محاضرة له في الثامن من حزيران الماضي، تحدث السيد ( نيكولاوس فان دام ) عن الحالة السورية، وذلك ضمن محاضرة له في مجلس شؤون العالم للصحراء في مدينة كاليفورنيا، إذ ينطلق السيد فان دام في بناء أفكاره وتصوراته من جملة من القناعات، لعله يعدّها ضرباً من الحقائق التي لا يرقى إليها الشك، وبناءً على تلك القناعات تغدو الثورة السورية ليست أكثر من مغامرة طائشة، كان وراء تحرّكها قادة أو معارضون يفتقرون إلى مزيد من الحكمة، فضلاً عن كونهم قاموا بتوريط السوريين في مواجهة خاسرة مع نظام الأسد. ثم لا يخفي السيد فان دام لومه الكبير على الدول التي تدخلت في الشأن السوري، ليس لأنها أسهمت في تدويل القضية السورية وانحازت بها من المجال الوطني إلى مجال صراع المصالح، بل لأن هذا التدخل الدولي حال دون مقدرة نظام الأسد على حسم المواجهة عسكرياً لصالحه، إذ “لولا التدخل العسكري الأجنبي لكان النظام على الأرجح سيضيق الخناق على قوى المعارضة بنفس القسوة التي مارسها، لكن عدد الضحايا سيكون أقل بكثير، ربما قُتل ما بين 10000 إلى 50000 سوري، ومن المؤكد أن عدد اللاجئين سيكون أقل، وكان من الممكن أن تنجو البلاد من هذا الدمار الواسع النطاق، كان من الأفضل أن يبقى نظام الأسد في السلطة مع سقوط من 10000 إلى 50000 قتيل، بدلاً من أن يخوض أكثر من عشر سنوات من الحرب مع سقوط أكثر من 500 ألف قتيل، والبلاد في حالة خراب، و10 ملايين لاجئ، وما زال الأسد في السلطة”.
كان ثمة فرصة – وفقا لفان دام – أمام السوريين الذين انتفضوا بوجه السلطة الأسدية، لحقن الدماء والوقوف عند بعض الحلول المقنعة للطرفين، لو أنهم قبلوا بالحوار مع السلطة “فأنا شخصياً كنت أفضل استمرار الحوار مع النظام السوري حول كيفية إنهاء النزاع”، إلّا أن سوء التقدير لدى قادة المعارضة الذين أخذتهم “النشوة” بما تحقق في تونس ومصر وليبيا قد أدّى إلى هذا الخراب والدمار، بل جعل من سوريا بؤرة لمجمل جرائم الحرب، وبحسب فان دام، فإن “خمسين نوعاً من جرائم الحرب في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد ارتُكِبت في سوريا”، وجميع الأطراف المتصارعة هي مشاركة في ارتكاب هذه الجرائم، وإنْ بنسبٍ متفاوتة.
لعله من الواضح أن السيد فان دام يحاول تصدير رؤية متكاملة عن واقع الثورة السورية ومآلاتها، بناءً على قناعات ينسبها إلى وقائع، ولعل المشكلة الجوهرية لدى فان دام وأقرانه لا تكمن في تحليلاتهم وتوقعاتهم بقدر ما تكمن في صحة الوقائع التي أسسوا عليها تلك التصورات او الاستنتاجات، وعلى أية حال ، ثمة ثلاث مسائل جوهرية، ظلّت غائبة أو مُغيّبة، ليس عن فهم فان دام وحده، بل عن الكثيرين من أصحاب الرؤى “الاستشراقية”، وتتمثل المسألة الأولى بالاعتقاد الخاطىء لدى هؤلاء بأن من أطلق الحراك الشعبي في سوريا هم معارضون سياسيون وقادة أحزاب أو جماعات، وأن هؤلاء القادة المزعومين هم من كان يقود حراك السوريين، ومن ثم هم من كان لهم دور في نقل الحراك من الطور السلمي إلى الطور المسلّح، وبالتالي فإن مجمل تداعيات الفشل التي لحقت بالثورة، إنما يتحمّل مسؤوليتها هؤلاء القادة أنفسهم. في حين أن الحقائق تشير إلى افتقار الثورة السورية – إبان انطلاقتها – إلى أي نشاط حزبي أو سياسي قائد أو موجّه، بل يمكن التأكيد على أن حركة التظاهر كانت سابقة لأي مبادرة سياسية من جانب المعارضة، بل يمكن الذهاب إلى أن المعارضة التقليدية في سوريا كانت على درجة من الضعف والشلل لم تمكّنها حتى من مواكبة الثورة.
وتتمثل المسألة الثانية حول زعم فان دام بأن التدخل الدولي حال دون قضاء الأسد على قوى المعارضة، وذلك من خلال تجاهل مريب لسيرورة الصراع المسلّح خلال عشر سنوات، فلئن كانت بعض الأطراف العربية أو الدولية قد قدّمت دعماً عسكرياً لفصائل مقاتلة مختلفة الانتماءات والتوجهات على الأرض السورية، فإن مجمل ذاك الدعم لم يتجاوز السلاح التقليدي، بل إن تقديم سلاح نوعي للفصائل التي كانت تقاتل النظام كان إحدى المحظورات، ولم يكن خافياً على أحد أن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة هذا القرار، انطلاقاً من استراتيجيتها الرامية إلى عدم السماح لأحد الطرفين (النظام والمعارضة) بحسم المواجهة عسكرياً لصالحه، وعلى الرغم من هذه الاستراتيجية، فإن المواجهات العسكرية حتى عام 2015، كانت نتائجها تشير إلى انهيار جيش النظام وتراجعه، بل انحساره في ما لا تتجاوز نسبته أربعين في المئة من الجغرافية السورية، ولعل تراجع النظام عسكرياً، ومن ثم الخشية من انهياره، هو ما دفع الروس بالتدخل المباشر في أواخر أيلول 2015، بهدف إنقاذ نظام الأسد من انهيار بات وشيكاً آنذاك، وهذا ما يؤكده القادة الروس أنفسهم، وكذلك الإيرانيون. وبناء عليه يكون التدخل الخارجي الحاسم هو لصالح بشار الأسد وليس لصالح المعارضة المسلحة، وتجاهل فان دام وسواه لهذه الحقائق هو ليس جهلاً بما جرى، بل نوع من التزييف وسعيٌ لقلب الحقائق وتضليل الرأي العام.
أمّا المسألة الثالثة، ولعلها الأهم، إنما تكمن في تصوّر “الاستشراقيين” عن نظام الأسد، واعتقادهم بقابلية هذا النظام واستجابته للحوار، واستعداده للاستجابة لمطالب المواطنين السوريين دون اللجوء إلى العنف أو الحلول الأمنية، وفي هذا السياق يمكن التذكير بأن بشار الأسد رفض الاعتذار لذوي أطفال درعا الذين قتلهم عاطف نجيب (رئيس فرع الأمن السياسي في درعا) لمجرد شكّه بأنهم كتبوا بعض الشعارات المناهضة لرأس النظام على الجدران، وهو اعتذار لا يستوجب أي استحقاق من بشار الأسد سوى استحقاق أخلاقي، ولكنه لم يفعل ذلك، فكيف به أن يذعن لاستحقاقات أخرى، ربما تنال أو تحدّ من تغوّله على حقوق السوريين؟ لم يشأ المستشرقون الجدد أن يقفوا عند دموية النظام ووحشيته، ولم تقنعهم جميع جرائمه بحق السوريين، لا البراميل المتفجرة ولا قتل المدنيين بالسلاح الكيماوي، ولا مئات الآلاف من المعتقلين ، ولا صور قيصر ولا عشرة ملايين لاجئ ونازح في سوريا، وكذلك لم يشأ هؤلاء الوقوف عند التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والتي تشير بوضوح إلى دور النظام في تعطيل العملية السياسية وعدم جدّيته بالدخول بالانخراط بأي حل سياسي.
لعل اللافت للانتباه هو أن السيد فان دام ليس باحثاً ومحاضراً في السياسات الدولية فحسب، بل كان سفيراً لهولندا لدى العراق ومصر وتركيا وأذربيجان وألمانيا وأندنوسيا، ثم مبعوثاً خاصاً إلى سوريا، ما يعني أنه يتعاطى نظرياً وعملياً مع الشأن السياسي، وما يعني أيضاً انه لا تنقصه المعلومة التي يحتاجها للبناء عليها، فما الذي يجعله في تعاطيه مع القضية السورية يشيح بوجهه وفكره عن وقائعها العيانية، ويبني فقط على أفكار افتراضية؟ أضف إلى ذلك أن قيمة ما يصدر عن فان دام لا تكمن في كونها موقفاً شخصياً لدبلوماسي غربي فحسب، بل بكونها رؤية باتت رائجة دولياً أيضاً، ولعل تماهي تلك الرؤية مع التصوّر الروسي لما يجري في سوريا يؤكّد أمرين اثنين، يشير الأول إلى استمرار اعتماد معيار “الغَلَبَة”
كناظم بديل لمعيار “الحق”، لدى القسم الأعظم من الساسة والمثقفين الغربيين، ويشير الثاني إلى امتهان مريب ليس لكرامة الكائن البشري السوري فحسب، بل لدمائه وحياته، إذ حين يجيز السيد فان دام لبشار الأسد أن يقتل من 10 آلاف إلى خمسين ألف مواطن سوري كمخرج للحل في سوريا، فهذا يعني أن دموية ووحشية نظام الأسد ليست هي المشكلة، بقدر ما هي رفض السوريين وإصرارهم على ألّا يكونوا خرافاً تنتظر الذبح!.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا