سمير صالحة
يظل السؤال بشقيه قائماً بعد اللقاء الـ16 لاجتماعات أستانا التي جرت، قبل أيام، ما الذي أنجز في هذا اللقاء؟ ولماذا تتمسك الأطراف بمثل هذه الاجتماعات التي تُعقد منذ 4 سنوات وتعد بإعداد خميرة الحل في سوريا ولكن من دون أية نتائج؟
كان السؤال قبل أعوام يتمحور حول محاولة معرفة ما الذي يبحث عنه الأتراك والروس في أستانا فتحول اليوم إلى عقدة هل من الممكن لأنقرة وموسكو النجاح في سوريا من دون إشراك واشنطن وطهران؟
أصدرت روسيا وتركيا وإيران -الدول الضامنة الثلاث المشاركة في الجولة 16 من محادثات أستانا- بياناً ختامياً أوجزت فيه نتائج أعمالها التي انتهت بالاتفاق على تثبيت “خفض التصعيد” في محافظة إدلب، وتنفيذ كامل الاتفاقيات المبرمة حول المحافظة، إلى جانب تعزيز التعاون فيما بينها لمكافحة النشاطات “الإرهابية” في المنطقة.
عبارات لم تغب عن البيانات والمواقف السابقة للمنصة التي بدأت أعمالها قبل 4 أعوام، وسط وعود بتسجيل اختراق حقيقي في التعامل مع الملف السوري.
تتحمل الدول المؤثرة في ملف القضية السورية مسؤولية تعقيد المشهد وإيصاله إلى ما هو عليه اليوم، لكن الأمم المتحدة التي تنازلت عن واجباتها والتزاماتها في تنفيذ القرارات الدولية المتخذة وأطلقت يد مساري جنيف وأستانا على حساب موقعها ودورها، ساهمت هي الأُخرى في تأجيج التوتر وصب الزيت فوق النار شئنا أم أبينا.
منصة جنيف تتخبط وسط اقتراحات ومسودات مشاريع أبعدتها عن نقاشات المسار الحقيقي للحل في سوريا، و”أستانا 16″ تجاهل الأهداف التي أعلنها، مطلع العام 2017، حول تسريع العملية السياسية والالتزام بوحدة سوريا واستقلالها انطلاقاً من القرارات الدولية المعلنة وفي مقدمتها القرار رقم 2254.
وها هو اليوم يحصر مباحثاته في التفاوض حول تحديد عدد المعابر الواجب فتحها لإيصال المساعدات إلى الشعب السوري والمساومة على أوراق إطالة عمر تجميد القتال على الجبهات في شمال غربي البلاد، فيما يستعد مجلس الأمن للاحتفال بهذا الإنجاز ويريد من السوريين أن يثمنوا له هذه الخطوة وتجاهل احتمال انتكاسها في أية لحظة، لأنها دائماً في قلب المساومات والصفقات السياسية بين اللاعبين الكبار في سوريا.
الملفت هذه المرة كان رمي المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، الكرة في ملعب النظام والمعارضة، وحديثه عن أزمة الثقة التي تطاردهما والتي “لم تسمح حتى الآن بالتوصل لحلول وسطية”، مقابل تبني أنقرة لعبارة البيان التي تؤكد “على الحاجة إلى زيادة المساعدة الإنسانية لجميع السوريين في جميع أنحاء البلاد، دون تمييز وتسييس وشروط مسبقة”.
أستانا منصة تجتمع بين الحين والآخر في محاولة لإدارة ملف القضية السورية دون تسجيل الاختراق الحقيقي باتجاه الحل حتى الآن، من وعود بتسويات كبرى في سوريا إلى تفاهمات محدودة ضيقة متحركة حسب مسار القضية بشقيها السياسي والعسكري.
الالتزام بتفيذ الاتفاقات هو الشعار المرفوع بعد كل اجتماع ليعود الجميع إلى خط البداية أمام انفجار الوضع على الجبهات الميدانية والسياسية. المعارضة تذهب لتفعيل مسار المرحلة الانتقالية والنظام يقول إنه لا يعترف بالوفد المرسل إلى جنيف فأعضاؤه هم أصدقاء فقط ولا يعبرون عن وجهة نظره الرسمية.
السبب في كل هذه التعقيدات ربما هو وجود لاعبين آخرين يقولون ما عندهم ويتمسكون بحماية مصالحهم وحصصهم في مسار ومستقبل التسويات السورية.
أنقرة في وضعية مَن يقاوم بمفرده على أكثر من جبهة: موقف أميركي غامض وأوروبي ضعيف وعربي مفكك ونفوذ روسي إيراني متزايد وحملات إعلامية وحرب نفسية لا تتوقف ضدها في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” حول انسحابات محتملة واستعدادات روسية إيرانية لفتح الطريق أمام تمدد عسكري ميداني جديد للنظام في منطقة إدلب.
كانت التوقعات قبل أعوام تتحدث عن ضرورات جنيف وأستانا لفتح الطريق أمام تطبيق القرارات الدولية، وكانت قوى المعارضة السورية تتمسك بجنيف دون رفض مبادرة أستانا، لكن المشهد اليوم يقول إنه على قيادات الثورة مراجعة استراتيجية التحرك لأن كلا المسارين كبلا يد اللاعب الأممي والمغادرة السريعة لهذه الوضعية هي الفرصة المتبقية للعودة إلى المسار الصحيح في البحث عن حل الوضع السوري.
قناعة أخرى تقول إن مشكلة موسكو لم تعد مع طهران وأنقرة في سوريا بل مع “إدارة بايدن” التي لم تحسم موقفها في الملف السوري بشقيه الجنوبي والشرقي كما يبدو. واشنطن تتمسك بورقة حليفها الكردي المحلي وتصر على إرضاء إسرائيل من خلال إضعاف النفوذ الإيراني هناك والإصغاء إلى ما تقوله أنقرة كي لا تخسرها تماما لصالح موسكو. لعبة شد الحبال متواصلة رغم الحديث عن تفاهمات حصلت خلال القمة الاخيرة بين بايدن وبوتين.
أعرب السفير الروسي لدى واشنطن أناتولي أنتونوف عن ثقته بتوصل روسيا والولايات المتحدة إلى حل وسط بشأن آلية إيصال المساعدات إلى سوريا. لكن هناك مَن يردد في موسكو أيضا أن هذا الملف ينبغي أن يناقش ضمن سلة واحدة تجمع الكثير من المواد يتقدمها مسألة العقوبات على النظام وقبول نتائج التجديد لبشار الاسد.
الكرملين يعول على أن تعطيه واشنطن ما يريد أمام طاولة مقايضات إقليمية مركزها الدائرة السورية وهو لن يتردد في التضحية بالنظام وتحويله إلى القربان الأول أمام الابتسامة الأميركية الموعودة وحيث ربطت واشنطن المسألة بملف إدخال المساعدات واعتبرت أن موقف بوتين من ذلك سيحدد مستقبل الاتصالات الثنائية حول سوريا.
كل هذا يعيدنا الى استنتاج ما قبل أعوام حول أن تفاهمات أستانا كانت عبارة عن شراكة ثلاثية للتقريب بين مصالح روسيا وتركيا وإيران تحت شعار الخيارات محدودة وعلى الشعب السوري القبول والالتزام، وأن الحالة الراهنة تعلن بداية التحول في التموضع الإقليمي والدولي حيال الملف السوري برغبة أميركية روسية كما يبدو.
ذكرت الخارجية الروسية مؤخراً بموقفها حول أن الوجود العسكري الأجنبي هو العقبة الحقيقية أمام التسوية السلمية في ليبيا. الرسالة هي لأنقرة قبل غيرها هناك. هل ينطبق التوصيف الروسي على الحالة السورية أم أن الرسالة هي لواشنطن قبل أن تكون لأنقرة؟
أعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى جوي هود أن الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير نظام بشار الأسد في سوريا، بل لتغيير سلوك حكومته، مشدداً على دعم عملية سياسية تقودها الأمم المتحدة لإيجاد حكومة تمثل الشعب السوري.
في الوقت نفسه أعلن مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا أن روسيا تجري حواراً مع الولايات المتحدة بشأن تخفيف العقوبات المفروضة على نظام الأسد. الاتصال الأخير بين الرئيسين الأميركي والروسي يتركنا مرة أخرى أمام حقيقة أن إطالة عمر منصات جنيف وأستانا لن يحمل الحل الحقيقي للقضية السورية وأن الحوار لا بد أن يكون أميركياً روسياً يأخذ بما تقوله وتريده أنقرة بعين الاعتبار .
المصدر: موقع تلفزيون سوريا