طارق فهمي
جاء المبعوث الأميركي لعملية السلام هادي عمرو إلى كل من تل أبيب ورام الله، للشروع في جولة لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين، يبحث خلالها فرص استئناف العملية الدبلوماسية، في وقت لا تزال إدارة بايدن في مرحلة استكشاف الطرق المؤدية إلى إعادة بناء الثقة بينهما، لا سيما بعد التركيبة التي بدت عليها الحكومة الإسرائيلية الجديدة وفرص تحقيق السلام. وأظهرت اللقاءات الأخيرة بين الفريقين الأميركي والفلسطيني، توافقاً على تقسيم العملية السياسية إلى مرحلتين، الأولى إعادة بناء الثقة بين الجانبين، والثانية استئناف المفاوضات.
أهداف مباشرة
كان أمام هادي عمرو مهمة من أمرين، الأول محاولة إزالة أي عقبات تعترض طريق المفاوضات بين غزة وإسرائيل، بالتالي نزع فتيل صدام جديد. والآخر الحديث إلى حكومة نفتالي بينيت بشأن السياسة الإسرائيلية الاستيطانية وهدم البيوت في الضفة الغربية، الذي ترى الإدارة الأميركية أنه يعيق أي تقدم اليوم باتجاه فتح مسار مفاوضات سلام بين الطرفين. ولعل مهمة هادي عمرو صعبة والنجاح فيها محدود وربما لا ينجح بمفرده، من دون تدخل مباشر من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الملفات كافة لدى حكومة بينيت، لأن الأخير لا يريد أن يترك أي أمور على حكومته أمام المعارضة الإسرائيلية.
في هذا السياق، بدأ التواصل الأميركي رسمياً مع الرئيس محمود عباس باعتباره الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني بمقتضى اتفاق أوسلو الحاكم للعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وجاء الموقف الأميركي بالرغم من كل الخروقات التي مارستها تل أبيب منذ أعوام لنص الاتفاق، أهمها الإمعان في تغيير البعد الديموغرافي واستئناف سياسة الاستيطان في الضفة الغربية، بخاصة في القدس، تنفيذاً لخطة التهويد الجديدة والمعلنة، التي تُعرف باسم مشروع تهويد القدس 2050.
في مقابل التحرك الأميركي، تطرح جملة من المتطلبات الفلسطينية أهمها التزام إسرائيل السيطرة الأمنية الفلسطينية في المناطق المصنفة (أ)، التي تشمل مدن الضفة الغربية كافة، وعدداً من البلدات الكبرى، بما نسبته 18 في المئة من مساحة الضفة الغربية. كما تضمنت رزمة المطالب إنشاء مطار فلسطيني في الضفة الغربية، وتوسيع مناطق السيطرة الفلسطينية المدنية والأمنية، التي تشكل في مجملها 40 في المئة من مساحة الضفة، كي تتناسب مع النمو السكاني للفلسطينيين في هذه المناطق وإعادة إحياء اللجان المشتركة، للوقوف على تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين في المجالات الأمنية والمدنية والمالية والاقتصادية، مع ضرورة تعديلها.
ومقابل سياسة الولايات المتحدة تجاه المسار الفلسطيني كان الأمر ذاته نحو الحكومة الإسرائيلية بالإعلان عن إتمام صفقة سلاح كانت مؤجلة منذ إدارة ترمب، وهو ما فهم منه أن الإدارة الأميركية تدعم موقف تل أبيب بصورة لافتة وتعمل على حماية أمن إسرائيل والتعامل المباشر لدعم قدراتها في مواجهة التنظيمات الفلسطينية في غزة التي تهدد أمنها الوجودي. وسيفتح هذا الدعم الباب على مصراعيه للجانب الإسرائيلي ليطالب بزيادة في المساعدات المقدمة من الولايات المتحدة له، التي تصل إلى 39 مليار دولار على مدى 10 أعوام، وتسعى تل أبيب إلى جعلها 56 مليار دولار في العامين المقبلين، إضافة إلى زيادة الدعم الأميركي في تمويل الأنظمة الدفاعية مثل حيتس وأرو، وتمويل المرحلة المستجدة لبرنامج القبة الحديدية.
تسعى الإدارة الأميركية إلى العمل على جزئيات، وليس من خلال خطة عمل أو إطار محدد (تصور أو مشروع)، بالتالي ستستكمل ضخ المساعدات للوكالة الدولية في غزة “أونروا”، كما ستعمل على فتح القنصلية الأميركية شرق القدس، ومكتب منظمة التحرير في واشنطن، وغيرها من الإجراءات بهدف تهيئة الأجواء الراهنة لاستئناف الاتصالات الفلسطينية على أرض الواقع، ومن دون مرجعيات تاريخية ملزمة، وهو ما يؤكد أن مخطط الولايات المتحدة ما زال في خطواته الأولى، ولن يتبلور في السياق العام إلا بعد منتصف الولاية الأولى للرئيس بايدن على الرغم من كل ما يجري.
مواقف منضبطة
ترى الإدارة الأميركية أن كل الشرعيات الفلسطينية منقوصة وأن تجديد شرعية السلطة أمر مهم وضروري، وهو ما يتطلب إعادة ترتيب الأجواء الفلسطينية وتنفيذ الاستحقاقات المؤجلة سواء الانتخابات التشريعية، أو الرئاسية، وانتخابات المجلس الوطني. لم تمانع إدارة بايدن في تقديم قائمة تحفيزية أوّلية للجانب الفلسطيني لتشجيعه ودفعه إلى المبادرة باتخاذ إجراءات أكثر شجاعة، بحيث استُئنف التنسيق الأمني مع إسرائيل بعد فوز الرئيس جو بايدن. كما أعلنت إدارة الرئيس الأميركي وجود قناة اتصال مع السلطة الفلسطينية، وهو ما سيشجع على فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، كما ضُخّت المساعدات المجمدة إلى “أونروا” في قطاع غزة، وكذلك سيُعاد النظر في برنامج المساعدات الاقتصادية الذي توقف بقرار إدارة ترمب.
كما ستستمر الإدارة الأميركية في متابعة ومراقبة السلوك الفلسطيني، خصوصاً أنها ستحاول تطبيق معاييرها المعلنة والخاصة بالتعددية والليبرالية والقيم الديمقراطية، وفي حال تيقّنها من سلامة ما سيجري فلسطينياً، ستبدأ بالتعامل الجاد مع سلطتها انطلاقاً من أنها الممثل الشرعي للشعب، وفي حال عدم حدوث ذلك، فإن الإدارة ربما تجمّد كل مواقفها الإيجابية الراهنة، وإن كانت ستبقي على قنوات التواصل الأمنية والاستراتيجية بناء على مطلب إسرائيلي، وهو ما سيستمر في كل الأحوال.
موقف الإدارة الأميركية من ترتيب الأجواء الفلسطينية سيكون مهماً للتعامل والتفاعل، ومع ذلك، فلن تقبل بوجود وزراء من حركة “حماس” في أي حكومة فلسطينية ستُشكل بناء على مطلب عباس بعد إلغاء الانتخابات التشريعية أخيراً. وإن كانت ستقبل بوجود شخصيات مستقلة أو تكنوقراطية، وسيعاد تأكيد ثوابت الإدارات الأميركية في التعامل من خلال ضرورة نزع سلاح الحركة واعترافها بإسرائيل وإعلانها نبذ السلاح، وهو ما سيتم التركيز عليه أوروبيا، وفي إطار تقبّلها العودة إلى الرباعية الدولية كمسار تفاوضي يمكن البدء به والتعامل من خلاله.
الأفكار المطروحة
لن تبادر الإدارة الأميركية في ظل ما يجري إسرائيلياً وفلسطينياً بالتقدم بأي طرح جديد أو مقاربة سياسية، بل ستبقى في موقف ردّ الفعل، إذ تشير المتابعات الحالية لردود الفعل إلى عدم وجود أي توجّه للقيام بهذا والانتظار والتريث لحين تكشف عما سيجري فلسطينياً وإسرائيلياً والتعرف إلى نتائجه بصورة جدية.
عدم التحمس لدخول أطراف أخرى في مسارات عملية التفاوض المقترحة، إذ سيستمر التأكيد الأميركي على أن الولايات المتحدة هي الوسيط الأول، وأنها من بدأت مسارات التفاوض، بالتالي سيُغلق الباب أمام أي تعامل أميركي حقيقي مع ما يُطرح في إطار استئناف التفاوض من خلال صيغة ميونخ، التي عقدت سلسلة لقاءات (مصرية – أردنية – ألمانية – فرنسية)، أو إعادة تفعيل آليات الرباعية الدولية، التي يطالب بها الجانب الفلسطيني منذ إدارة الرئيس السابق ترمب، ولم يتم التفاعل معها بل وتجاهل طرحها فعلياً.
لا يعني انتظار الإدارة الأميركية وترقّبها ما سيجري فلسطينياً وإسرائيلياً، تجاهلها لمخطط السلطة الفلسطينية ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا في التماهي مع الدعوة الفلسطينية لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، وهي الفكرة التي يُسوّق لها فلسطينياً في الوقت الراهن وتحظى بدعم عربي وأوروبي. ومن ثم، فإن إدارة بايدن سيكون لها موقف مشابه من نظيرتها السابقة عندما دعت فرنسا إلى مؤتمر باريس للسلام في الشرق الأوسط، وخرّبت فعالياته وأفشلته.
ستستمر الإدارة الأميركية تروّج للخيارات العامة في استئناف عملية التفاوض، ولكن لن تبادر بالدعوة إلى مؤتمر دولي، (مبادرة مطروحة من بعض مستشاري الخارجية الأميركية أو الدعوة لقمة عربية إسرائيلية موسعة) تُطرح على لسان بعض مسؤولي واشنطن (غالبيتهم من إدارة أوباما) وغيرها من الأفكار، التي لن يكون لها الأولوية في هذا التوقيت، ومن المهم تأكيد أنها لن تحسم مواقفها بصورة مباشرة على الأقل في المدى المتوسط، وهناك توقع أن ذلك لن يحصل قبل مرور منتصف الولاية الأولى على الأقل.
معوقات التحرك
تعدد مسارات الحل: بالرغم من التحرك الأميركي، إلا أنه يفتقد إلى الآليات والإرادة لممارسة دور حقيقي وفاعل ومباشر بإتمام التهدئة على الأرض في ظل الانحياز للجانب الإسرائيلي على حساب نظيره الفلسطيني.
غياب المصداقية الحقيقية: في ظل انحياز الولايات المتحدة الراهن، من الصعب أن يقوم الجانب الأميركي بوساطة حقيقية فاعلة أو قوية في الوقت الحالي، وهو ما يتطلب إعادة تدوير الحسابات والسياسات في أكثر من اتجاه، كما أنه يدفع إلى تبنّي خيارات متعددة في الفترة المقبلة مع الاستمرار في الاستعانة بدور مصري أردني.
مراوغات الجانب الإسرائيلي: بالرغم من الدعم الأميركي لتل أبيب، فإن هناك إشكالية حقيقية متعلقة بالسلوك الإسرائيلي الراهن والقائم على فكرة الابتزاز والعمل انطلاقاً من تحقيق مصالحه في اتجاه واحد، مما سيعرقل التحرك الأميركي على المسارين، وربما يؤدي إلى صدامات متوقعة استكمالاً لما يدور في الملف الإيراني من تفاصيل في ظل اتهامات إسرائيلية للجانب الأميركي بأنه لا يراعي المتطلبات الأمنية لإسرائيل على الرغم من الحوار الأمني المستمر منذ وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض.
ضعف السلطة الفلسطينية: على الرغم من استئناف الاتصالات الفلسطينية الأميركية على مستوى السلطة، إلا أن الإشكالية المطروحة مرتبطة بالأساس بأن السلطة في وضعها الراهن ليست مَن تقرر، وأن القرار الاستراتيجي الراهن في يد حركة “حماس”، وليس “فتح”، مما يؤكد أن إدارة بايدن لا تريد من مخططها الراهن إحداث نوع من الاختراق في حسم المشهد الحالي والمرشح للاستمرار في المدى المتوسط.
السيناريو المقبل
يمكن إذاً تأكيد أن الإدارة الأميركية ستظل تدرس الموقف الراهن فلسطينياً وإسرائيلياً بالشراكة مع مصر والأردن، مع الاستمرار في دعم الجانب الإسرائيلي أمنياً واستراتيجياً في مواجهة ما يجري، بخاصة مع اعتبار تل أبيب الأمر شأناً داخلياً أميركياً، ولا يمكن التنازع حوله على الرغم مما جرى في الكونغرس بخصوص تقديم الدعم له، وهو ما يؤكد أن تل أبيب ستمضي وفقاً لهذا الأمر بناء على سياسة أميركية نفعية، كما ستعمل على زيادة مساعدات الولايات المتحدة لتمويل أنظمة دفاعاتها التي تعرّضت لانتقادات في الفترة الراهنة من المواجهات العسكرية في القطاع، وفشل القبة الحديدية في التعامل مع الصواريخ الفلسطينية التي لم تعُد ألعاباً نارية، ويمكن أن تتطور وتتحسن مساراتها لاحقاً، وهو ما سيزعجها.
في كل الأحوال، ليس من المتوقع أن تُقدِم إدارة بايدن على تبنّي استراتيجية جديدة تقوم على الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية، وهو ما يرغب به الفلسطينيون ويعملون للتوصل إليه، خصوصاً أن السلطة الفلسطينية ستخرج من أزمة المواجهات الراهنة بحالة من الانكسار والإخفاق السياسي بعد الفشل في إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، بل والرهان على البدائل الأخرى في ظل تنامي دور حركة “حماس” وتنظيمات المقاومة، وهو ما سيجعلها في موقف الأقوى على الساحة السياسية، بالتالي فإن الإدارة الأميركية ستجد نفسها أمام تطورات سياسية واستراتيجية مفصلية على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ومن المهم التعامل مع مستجداتها وليس اتباع سياسة رد الفعل، كما جرى في إطار تعاملها مع التطورات التي جرت بينهما.
كما أن الإدارة الأميركية لن تقدِم على أي مبادرات حقيقية لاستئناف الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية رسمياً في مثل هذه الأجواء، وستعمل على تحقيق متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي كأولوية على أي اعتبار آخر، كما ستعمل على دعم الوساطات الدولية المطروحة من الأمم المتحدة، وستراقب تحركات الوساطة المصرية من دون أن تبلور رؤية للتوافق في ظل الحالة الراهنة للجانبين، وفي ظل استمرار الدعم الأميركي غير المحدود للجانب الإسرائيلي، وتوفير متطلباته الأمنية، تخوفاً من صدامات جديدة تستكمل الخلافات الراهنة بشأن التعامل الأميركي مع البرنامج النووي الإيراني، وهو ما سيؤكد أن إدارة بايدن ستطبّق قاعدة راقب وانتظر، ثم تعامل.
المصدر: اندبندنت عربية