علي محمد شريف
في بلداننا العربية على وجه الخصوص نستطيع الحديث عن نظام ثقافي مفتقد في بعديه القيمي والحضاريّ، حيث تحلّ الفوضى وتتضارب المشاريع ويسود منطق الطغيان والتخلف والجهل، ضمن مجال جيوسياسي تتحكم في موارده وشعوبه وقائع وأنظمة وبنى معقّدة، أوجدتها قوى غريبة عنه لا تزال تمسك وتتملك مفاتيح الأبواب الموصدة أمام أيّ تغيير محتمل في مصير هذه الشعوب وأقدارها المبهمة.
يمكننا الادّعاء بأنّ الثقافة العربية بمعناها المنتج التي ازدهرت مع صعود الدولة العربية الإسلامية فأثمرت عمراناً وفنوناً وعلوماً وآداباً وفكراً وفلسفات قد تعطلت، إن لم نقل توقفت منذ انهيار آخر قلاعها، لتطغى ثقافة التقليد والاتباع والغرق في عوالم الغيبيات والخرافات، وتقديس كل ما ينتسب للماضي بذريعة أن الأولين لم يتركوا شيئاً لمن جاء بعدهم، وأنّ كلّ جديد بدعة تقود إلى الضلال وتنذر بالخراب، ومع ذلك تبرز في عصرنا الراهن ظاهرة تحمل في طياتها تناقضاً صارخاً يمكن لحظه في الإقبال المتزايد على استهلاك ما تنتجه حضارات الأمم المتقدّمة من سلع لا تقتصر على التقنيات والآليات الحديثة وإنما تتعدّاها إلى صنوف الغذاء والكساء والمنتجات البسيطة، بل وإلى المنتج النظريّ والفنّي في مؤشر دالّ على ضمور عوامل الإبداع وغياب لثقافة الإنتاج والابتكار، ولعلّ من أوائل المستهلكين والمقلّدين لبضاعة الآخر المتفوّق عديد من مثقفي البلدان العربية ونخبها الكلامية.
فإذا كانت ثقافات الشعوب تتجلى في منعكساتها المادية وفيما تتمظهر به من قيم ومبادئ وسلوكيّات تَسِمُ علاقات الأفراد والجماعات سواء فيما بينها أو مع الآخر المختلف، وإذا كانت الثقافة الأصيلة نتاج تاريخ طويل أسهمت في تكوينها المعتقدات والفنون والفلسفات والأفكار والأعراف والعادات..، وكان للعقل النقديّ دوره الأهمّ في تأصيلها وبلورتها، فإنّ المثقف، باعتباره نتاجاً أولياً لها، هو من يستطيع تمثل ثقافة مجتمعه، ويعي أهمّية وظائفها وأدوارها في توحيد أفراده ومكوناته وصياغة تطلعاته وصقلها والارتقاء بها، وأن يدرك مسؤوليته في تحصينها وتعزيزها، وأيضاً المشاركة في تجديدها وتطوير بناها العلمية والمعرفية من موقعه وضمن مجاله التخصصي، وأن ينهض بمهام التغيير الذي يفرضه واقع الحاجة، ويدفع إليه الواجب الأخلاقي والحسّ الإنساني والمنطق المنزّه عن الأنا والمصالح الذاتية.
تشكل الأحداث الكبرى التي تعصف بالمجتمعات ميداناً مكشوفاً لاختبار مدى تجذّر ثقافة ما فيها وصمودها، أو تشظيها وتقهقرها أمام ما تخلّفه هذه الأحداث من مآس وكوارث إنسانية بالغة الأثر، ولعلّ الامتحان الحقيقي لمثقفي المجتمعات العربية ولنخبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو في الموقف من ثورات الربيع العربيّ، باعتبارها حدثاً تاريخيّاً يؤسس لمرحلة مفصلية في حياتها، وجسراً متحركاً للعبور من واقع الموات والفوات في جحيم الطغيان، إلى نعيم الحرية وفضاءاتها المكشوفة على حياة لائقة بالإنسان وأحلامه باللحاق بركب التطوّر والإبداع في ظلّ الدولة العادلة.
لقد سقط أغلب المثقفين العرب في امتحان الموقف وانهزموا أمام لحظة الحقيقة، بل انهزموا أمام أقنعتهم النظرية وشعاراتهم الملونة التي تستّروا بها وارتزقوا عليها، وانهارت أبراجهم المتعالية فتكشّف عريهم عن قاع سحيق من البؤس والتهافت، وعن عماء فكريّ وخواء أخلاقيّ..، لقد اضطرت ثورات الربيع العربيّ تلك النخب الرخوة للخروج من قوقعتها والإفصاح عن ذاتها المنشغلة في البحث عن حماية مكاسبها الفرديّة التي لم تكن لتحصّلها لولا تسخير مواهبها وإمكاناتها في تلميع صورة الطاغية وتكريس سلطته، لقد كانت المصالح الذاتية والرؤية النفعية والعقلية الانتهازية هي المحددات الأبرز التي انطلق منها عديد من المثقفين والنخب في تسجيل مواقفهم من ثورات شعوبهم، والمراهنة على الفريق المحصّن بعوامل القوة والقدرة، فاختاروا أحصنتهم السوداء القادرة وفق تقديرهم على الحسم لمصلحتها.
لن نتكلم هنا عن مثقفي الملل والطوائف ونخبها فهذا حديث آخر لكنّ السؤال يشمل أولئك وهؤلاء عن حقيقة كونهم مثقفين ونخباً حقاً، ثمّ هل يمكن لثقافة تتسربل بخرقة الإنسانية أن تؤسس لدولة تسود فيها قيم الشرَ والظلم ويتحكم بأركانها القتلة والمجرمون؟؟.
إنّ بناء هوية وطنيّة وإرساء نظام مجتمعي تتحرّر فيه الروح وتنطلق في فضائه الإرادات المنتجة ويتحد أفراده على أسس المواطنة يستلزم ثقافة إنسانية تنحو إلى التجدد وتقبل بالآخر شريكاً وفاعلاً، بل وتعتبره بعضاً من مكوّنها الأرحب، إن امتلاك هكذا ثقافة متحررة من الأيديولوجيا ومن كافة مظاهر التعصّب سيطبع بطابعها منظومات المجتمع المختلفة السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، ويؤثّر في صياغة سياساتها وبرامجها، ويحدّد ويدعم أهدافها وغاياتها المستقبلية في التنمية والرفاه والازدهار.
المصدر: اشراق