أيمن أبو هاشم
ثمانِ سنوات على اغتيال مخيمٍ، تفردَ في استنبات الحياة رغم تواريخ الصفعات، كأنه خُلقَ مشيمةً تحفر في أرواح ساكنيه، عشقاً يتوقد احتراقاً كلما غابت شمسه في غسق الذهول. هو اليرموك صانع الذكريات والأشواق على جمر الحضور، والشريد القابع بين أسوار الخراب. يفتشُ في مراثي الخذلان عن وجوه من رحلوا، وأسماء من تفرقوا بين قوافي الغياب. وحيداً يغرق في سؤاله الشعري المُدّمى، أين أنتم يا قلبيَّ الممزق بين أشلاء منافيكم؟ ينام مضرجاً على صمت السؤال، ويغرق اليرموك صامتاً في بحور الارتياب، كلما طال أمد الجواب.
لم يترك الحاقدون على عنفوانه الجليل، شتلة حبقٍ يستأنس بعبقها الفواح كل صباح، بعد أن اقتلعوا لمّة الأحباب من حواريه، ثم اعتصروا من أنقاضها آخر ما تبقى من شواهد نبضه الحي. بقيّ اليرموك وحيداً ينزف فلسطينيته السورية، ويكابد الحصار والجوع بأنين أطفاله، ويتلقى الطعنات من كل الجهات، ولا يكف رواته العالقون بين شظايا الغدر، من التمسك بالمتراس الأخير قبل أن يسقط على مذبح التنكر اللئيم.
ثمانِ سنوات يقف البعيد أمتاراً عن المخيم المصلوب، كالبعيد آلاف الأميال عن حنينه العالق هناك، فالجسر المفتوح إلى صدر المخيم، غدا بوابة الزائرين إلى سجنٍ، كان المكان الأثير للبوح الراعف في مخيمٍ لا يستكين للخوف. يخشاه أعداء الحقيقة التي لا يساوم عليها، ولم يقبل المتاجرة بها، وما زالوا يرتعدون حد الفزع من ذكره، حتى وهو المذبوح على مقاصلهم الأسدية.
تبادلوا الأدوار على محوِّه من خارطة الوجود، وما زال بعد رحيل آخر قوافل المهجرين عنه، وانشغال السرّاق بالتحايل، على آخر آماله بعودة من أضناهم الحنين إليه، يأبى أن يكتب وصيته الأخيرة، لأنه يحفظ ملامح الشهداء في عيونه، ويحتضن مقابرهم التي دنسوها في سجله الخالد. هناك ينتصب تاريخ الجلجلة على ضريح حلمٍ، كان جسراً بين ثورتين ووطنين، وصهيلاً ينادي للحرية حين تصمت المدائن الحبيسة.
اليوم يجول طيف اليرموك بين شوارعه الحزينة، ويفتح دفتراً نجا بياضه من الدم، كي يوثق للعالم جريمة عصرٍ انتعف ضحاياها في أربع رياح الأرض. يروي بحواف الجراح وخوابي الغضب، تفاصيل قيامة شعبٍ، أبدعَ في التمرد على يأس اللجوء، وأعاد ترميم وطنٍ مفقود في مخيمٍ بحجم الكون، وانبعث مجدداً كلما ردد صغاره نشيد الفدائي. سيروي ويروي كيف كان يودع كواكب الشهداء بحفنات الأرز والزغاريد، وكيف يلوّن أمسيات أحلامه بأغاني العاشقين، وكيف أتقن فنون العيش مع زحمة البشر والتساؤلات المشبوبة.
روايةٌ واحدةٌ لا تكفي لنبش عوالم اليرموك التي كانت، ويستعصي عليها الإلمام بالقليل مما منحه اليرموك للمعنى. إنه فلسطين المزروعة في صدر كل بيت، والعودة المطرزة على كوفيةٍ تزين عنق صبيةٍ تغتسل بالشمس. إنه مضافة الأرواح التي أفلتت من قبضة التدجين، ولم يفارقها شغف الخروج على بلادة المألوف. تاريخه يُقاس بأعمار المتمردين والثائرين لا بالسنين، وتكتبه وقفات الوفاء لكل شريدٍ ومظلوم، وحين كان يشعر بسطوة أزمنة اليباب، يهرع إلى استنباط الفكرة الحبلى بالأمل، كي لا تبحر أشرعة قضيته وراء السراب.
اليرموك كلما استعاد محطات تكوّن سيره الحاشدة، وفيها تضيع التخوم بين الفلسطيني والسوري، وبين مصيرهما المجدول بوحدة الخلاص، كان يدرك أكثر من لا يعرف تلك السيّر الخافقة بالوجدان، كم هي جريمة تدميره، واعتقال وقتل أبنائه، وتهجير أهله، وتصفية هويته، من أقسى النكبات التي تفيض أوجاعها بما لا يحتمله إنسان. فيها يستكمل الأسى ما عجز عن بلوغه المغتصب الصهيوني في مجزرة النكبة الأولى، وما تولاه المجرم الأسدي في مجزرة نكبته الثانية، ومن شاركوا بذبحه من فصائل العار.
ثمانِ سنوات وذكرى اليرموك، تنكأ الجراح بسكاكين القهرِ والخسران. وفي معمعان الذكرى التي تختزل مأساة سورية الأكبر في مأساتها الفلسطينية الأعتى، لا تسامح ولا نسيان ولا غفران، ويبقى اليرموك قبلة الانتماء الأزليّ، والشاهد الحي على قتلة الحياة، ومرمى الحنين الذي تزيده المنافي اشتعالاً.