علي العبدالله
تثير الدعوة إلى الإصلاح الديني ردود فعلٍ متباينة، في ضوء المواقف الفكرية والسياسية والسجالات الساخنة بين أنصار الإصلاح ورافضيه، على خلفية الموقف من الدين ودوره في الحياة العامة، بما في ذلك السياسة. فالذين ينكرون أهمية الدين في العصر الحديث، ويعتبرونه عائقاً أمام التنمية والتقدّم، ويربطون بين إخفاق المشاريع التنموية في المجتمعات المسلمة والدين الإسلامي، يرون دعوة الإصلاح نافلةً لا طائل تحتها، إن لم تكن ضارّة، والذين يتمسّكون بالدين ودوره في الحياة العامة ليسوا على موقفٍ واحدٍ، حيث تبنّت المدرسة العقلية، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما من بعدهما، الإصلاح الديني، ورأته ضرورة مصيرية للخروج من حالة الجمود واللحاق بركب التطوّر والحضارة؛ واعتبرته مدخلاً لازماً للإصلاح السياسي، فيما لم ترَ المدرسة الإحيائيَّة الحركيَّة، الإخوان المسلمون والسلفية، وجود حاجةٍ للإصلاح الديني، فالإسلام في نظرها ليس بحاجةٍ لذلك؛ وإن كل ما يحتاجه تنقية وتحريك وتجنيد وتعبئة ليس إلا، فدافع الأولى تحديث المجتمع، والدفع به إلى مصافّ الدول المتقدّمة، انطلاقاً من رؤيةٍ تربط الإصلاح السياسي بالإصلاح الديني، فيما تهدف الثانية إلى ضبط المجتمع، عبر تثبيت رؤية تقليدية وحركية قائمة على التسليم والطاعة، والعمل من أجل بلوغ السلطة، في تغليبٍ للجانب السياسي على الجانب المعرفي.
لدعوة الإصلاح الديني وجاهتها وضرورتها لما يشكّله الدين بالنسبة إلى الإنسان من حاجةٍ ودافع، يلبّي حاجة نفسية. فالإنسان متديّن بالفطرة، ويدفع إلى الفعل، إيجابي في الغالب، في ضوء توجيهات الدين، الإسلام في حالتنا، إلى تبنّي قيم أخلاقية واجتماعية، والدعوة إلى إعمال العقل وإعمار الكون وتحقيق العدل والمساواة. وتنطلق دعوة الإصلاح من مسلَّمة رئيسة: حالة الجمود التي أصابت الفكر الإسلامي، بدءاً من أواخر العصر العباسي الثاني، مروراً بعصور التفكّك والانقسامات والصراعات الداخلية والغزوات الخارجية، وما نجم عنها (حالة الجمود) من أثرٍ ثقيلٍ تحمله الأجيال المسلمة على كاهلها، قراءات ومذاهب ومواقف وفتاوى تتعارض كلياً أو جزئياً مع مكانة الإنسان ودوره في الوجود كما حدّدها القرآن الكريم، قيّدت حركتها، أفراداً وجماعات، وشلّت قدرتها على مواجهة التحدّيات وملاقاة التغيرات والتحولات المحلية والعالمية، والانطلاق نحو آفاقٍ رحبةٍ مفعمةٍ بالحيوية والتطور والازدهار، فالجمود على الفكر الديني، بغثّه وسمينه، والتمسّك برؤى وفتاوى تجاوزها الزمان، وشيوع تديّن ظاهري، بعيد عن جوهر الدين وأهدافه، على حساب روحيته وقيمه، رتّبت خسارة للإسلام والمسلمين في معركة الحضارة والتنافس مع القوى الخارجية ورؤاها الفكرية وبرامجها التطبيقية. لذا، غدا ضرورة مصيرية خوض مغامرة الإصلاح الديني في مواجهة معوّقات داخلية، سيادة عقلية التقليد والتسليم، وأن لا جديد يقال، وخارجية، الهيمنة والسيطرة على النظام الدولي والقواعد الناظمة لعمله، وتحديد التخوم والحدود المطلوبة مراجعتها وإعادة النظر في منطقيتها وموضوعيتها وجدواها. وهذا يستدعي البدء من إعادة نظرٍ في الرؤية الدينية السائدة، وفي المرتكزات الفقهية التي اعتمدتها والممارسات التي قادت إليها. فالرؤية الدينية السائدة كرّستها عوامل ومراحل تاريخية متقلبة، من التباس بعض النصوص على المسلمين الأوائل، في ضوء القدرات المعرفية والعلمية في زمانهم، فكلّ جيل يجيب عن الأسئلة التي تواجهه بما بين يديه من معارف ومناهج فكرية، إلى انفجار الصراعات البينية، وتوظيف قراءاتٍ معيّنة للنص الديني، خدمة لأهداف سياسية، الجبرية والقبول بالخليفة المتغلّب، والتخلي عن إلزامية الشورى والانتقال إلى الحكم الوراثي السلطاني، وبخس الإنسان ودوره، وتحويله إلى كائن عاجز، محتاج من يسيّره ويقوده، إلى الغزوات الخارجية، المغول والتتار والحروب الصليبية، وتدمير الحواضر الإسلامية. علما أن نقد الرؤية الدينية السائدة، واقتراح تعديلات أو بدائل لها، لا يعنيان رفض الدين ذاته، بل مراجعة ونقد قراءات أنتجها بشرٌ ليسوا معصومين من الخطأ، نذكّر هنا بقول أبي حنيفة النعمان: “كل الرجال يردّ عليهم إلا صاحب هذا القبر”، في إشارة إلى قبر النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فالرؤية السائدة ليست الدين، وإن احتوت على جوانب دينية. إنها قراءات وتقديرات أنتجها بشر استنطقوا النص الديني (القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة)، واستنتجوا منه معاني ومواقف ورؤى وتقديرات، بنت زمانها ومكانها، لا تستغرق كل الممكنات والمعاني والقراءات.
بات الإصلاح الديني، بما هو تحديثٌ للمفاهيم الدينية، وتطويرها، باعتماد أدوات بحثٍ عصرية تتسق مع المستوى المعرفي الحديث في قراءة النص الديني المؤسّس، ضرورة واقعية وإنسانية؛ ردّاً على حالة الجمود والفوضى الفكرية والفقهية السائدة؛ ولما يمكن أن يُحدِثه من تأثيرٍ في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة، ولما سيكون له من تأثير في جمهور المسلمين، حيث للدين مكانة رفيعة في المجتمعات المسلمة، وفي المخيال الشعبي لعامة المسلمين، وتطوير حياتهم ومجتمعاتهم.
غير أن هذه الموجبات والمبرّرات المنطقية والهامة لم تجعل الإصلاح الديني مقبولاً وتنفيذه سلساً، فقد نهضت في وجهه قوى دينية، الإخوان المسلمون والسلفيون وبعض المشيخيات، واجتماعية، كتل شعبية، فالقوى الإسلامية المنظّمة ترفض دعوة الإصلاح الديني، لأنها تستدعي برنامجاً طويلاً، ليست مستعدّة لبذل الجهد لأجله، لأنه ينقلها خارج خططها: انتزاع السلطة التي أعطتها أولوية مطلقة، فحاربته بذريعة خدمة الأعداء بالنَّيل من الدين الإسلامي وتشويه صورة المسلمين. فيما ترفضه المشيخيات، وهي تعلم صوابيته، من خلال كتبها القديمة التي تقرّ بـ “تغير الأحكام مع تغير الأزمان”، وبما عرفته من تاريخ فقهاء غيّروا فتواهم مع تغيير المكان، مثل تغيير الشافعي في كتابه “الأم” عند انتقاله من العراق إلى مصر، لأنه يكشف هزال مرتكزاتها العلمية أمام جمهورها. وترفضها الكتل الشعبية، لأنها تخاف كل جديد، ويقلقها الخروج من اعتيادها وشعورها بالرضا عن وضعها؛ هي متوجّسة من كل جديد أو خارج عن مألوف عادتها وحياتها الرتيبة، فالإصلاح الديني، بما ينطوي عليه من نقد وتقويم للراهن والماضي الفكري والسلوكي لعموم المسلمين، يفتح المجالَ للتفكير العلمي في الشأن الديني، خارج الرؤى الرائجة، ويتيح إمكاناتٍ لقراءات ورؤى جديدة تتخطّى الراهن وما فيه من خللٍ واستنتاجات فجّة، عملاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام “ثوروا القرآن ..”، سيصطدم بالعقلية التقليدية وبنمط التربية القائم على الطاعة وتمجيد الماضي التليد؛ والتعليم المرتكز على التلقين والحفظ دون تفاعل مع المحتوى وتحليله وتقويمه عبر مساءلته ومعارضته.
موقف غريب للكاتب اللبناني حازم صاغية طرحه في مقالة له تحت عنوان “الإصلاح الديني ولماذا يصعب أن ينشأ عندنا”، الجمهورية. نت: 2/8/2021، فبعد عرض طويل لما حصل في أوروبا في القرون الوسطى من تطوّر التعليم والعلم وانتشار النزعة القومية مهد لإطلاق حركة الإصلاح الديني وتشكيل العقيدة البروتستانتية، ذهب إلى القول باستحالة الإصلاح الديني عندنا، في ضوء ما نواجهه من التخلف العلمي، وسيطرة المشاريع السياسية على المشهد الوطني وممارسات أنظمة الاستبداد، بما في ذلك توظيف الدين لتثبيت استبدادها، متجاهلاً التباين الشاسع بين الحالتين والزمان والمكان المتباعدين، من جهة، وطبيعة الإصلاح في كلتا الحالتين، حيث لا كنيسة ولا رجال دين ولا كرسي اعتراف ولا خطيئة أصلية في الإسلام، وحيث الفردية مقرّة ومحترمة، والدعوة إلى إعمال العقل ثابتة وراسخة، من جهة ثانية، ما يجعل طبيعة الإصلاح ومداه مختلفين وشروط حصوله متباينة.
تنبع الدعوة إلى الإصلاح الديني من احتياجات المرحلة التي نعيشها؛ ليكون الفكر الإسلامي قادراً على التعاطي مع العصر الحديث وأفكاره وأدواته؛ وقادراً على الاستفادة من الثورات العلمية الكبرى ومنتجاتها. وهذا يتطلّب منظومةً فكريةً إسلامية جديدة، قادرة على التفاعل مع الظروف المتغيرة، ومع القيم الإنسانية الحديثة، والانفتاح على الآخر والتعايش معه وتقبله، وقادرة على سد النقص وملء الفراغ في المجالات التي لم تلقَ اهتماماً كافياً من مفكّري المسلمين وفقهائهم، كموقع الإنسان في الكون وأبعاده القيمية والحقوقية، بحيث تتأسّس على قراءة إنسانية للدين تحرّره من القراءة الفقهية السائدة، وتجعلها أكثر انسجاماً مع روح الدين الإسلامي ومنطلقاته العامة، بحيث تتناغم وتنسجم المنظومة الجديدة مع الإنسان وطبيعته وأبعادها. والمطلوب من النخب الدينية والثقافية تأسيس مراكز بحث وبرامج حوارية، لبلورة مشروع إصلاح ديني منبثق من حوار داخلي شامل وعميق، مفتوح على المساءلة المعرفية؛ كي يتحرّر من سيطرة النقل، يفتح آفاقاً واسعة للنقد والمراجعات، وتحويله إلى عامل بناء وتطوير. مشروع قادر على حلّ معضلة الإنسان المسلم وقلقه وتوجسه بتزويده بذخيرة حية؛ قيمية واجتماعية ومعرفية، تؤهله للانخراط في قضايا العصر العلمية والثقافية والاجتماعية والحقوقية.
المصدر: العربي الجديد