غسان زقطان
تصل الرواية في موجات، تتدافع حوادثها كما في سباق عدائي المسافات الطويلة، الطلقة أولاً ثم الانطلاق الجماعي الأعمى، الجسد بغرائزه هو الآلة الآن ينشر حواسه في محيطه، حيث يتدافع بالأكتاف عداؤون متوترون يتزاحمون بأجساد متعرقة وعروق نافرة في خانات المضمار التي ستتداخل عند أول منعطف.
أحياناً تصل الحوادث بطيئة من ممرات جانبية غير متوقعة، ممرات غير مطروقة ومهجورة، تظهر مترددة، وتصل مفككة مثل مشاة وصلوا الطريق الرئيسي بعدما هاموا في الغابة، ثم تبدأ بالتجمع، الحقائق المفتتة التي انبنت عليها مبالغات ضرورية لتغذية بقائها الهش، التفاصيل الصغيرة التي تواصل تقدمها من الهوامش لتصبح المتن نفسه، بينما يتراجع المتن بارتداداته وأفكاره التي صنعتها الدهشة والرغبة في تأكيد شيء ما في وعي الراوي وضخه في نسيج السرد.
في أحيان أخرى، ينفجر الحدث مثل رعد في سماء صافية، يخرج من عاديته البسيطة ويذهب مباشرة الى المجاز، لأن هناك من ينتظر شيئاً جديداً يحرّك الهواء الذي ركد طويلاً، وتحول غلالة دبقة تعلق في الثياب وعلى الأصابع.
الوقت، أيضاً، لأن الأشياء حدثت الآن وهنا.
النفق في معسكر الاعتقال الإسرائيلي في “جلبوع”، أو “الخزنة” كما تداول الاستعراض الإسرائيلي اسمه طويلاً قبل تفكيك شيفرته على أيدي ستة سجناء فلسطينيين، حادثة النفق تلك ضمّت، على نحو ما، كل ذلك.
منذ اللحظة الأولى بدا أن “عملية نفق جلبوع” ذهبت أبعد مما خطط لها أصحابها، وأبعد مما قدّر خصومها، لقد اهتدت مباشرة الى المجاز الشعبي، الشبكة المتوارية والمتصلة مثل شيفرة جينات بنزعات الناس والتّوق الى الحرية، تلقفتها وتداولت حوادثها وأعادت صوغها خارج الحدث وأبعد منه. كانت المادة الخام الضرورية لإعادة إنتاج الحلم. لم تعد الأشياء على حقيقتها البسيطة التي تروي أن ستة أسرى حفروا نفقاً تحت جدار السجن وخرجوا أمام البرج، لم ترهم الحارسة ولم يبصرهم مراقبو الكاميرات ولم تنبح الكلاب في السهل.
الأفكار الصغيرة التي قادتهم الى الهواء المفتوح كانت أكثر وضوحاً وعفوية من أعباء التخطيط، “شاهدت نفقاً فخرجت” يقول زكريا الزبيدي الذي انتقل الى الزنزانة الرقم 5 قبل يوم من الهروب، بينما يروي محمد العارضة، المحكوم بثلاثة مؤبدات زائداً 20 سنة، حصوله على ثمرة صبير، التين الشوكي، من مرج ابن عامر، كمن يروي معجزة انتظر حدوثها أكثر من 22 عاماً. محمود العارضة المحكوم بمؤبد زائداً 35 سنة، كان واضحاً وواثقاً كما يقول محاميه: “أنا المسؤول عن كل شيء، وكنا ذاهبين الى جنين وليس الى أي مكان آخر”.
يلتقط الخيال الشعبي بفطرته المدهشة اللقطات المتروكة في ضواحي الرواية ويعيد بناءها وتحويلها رموزاً، أشبه بمسامير متينة لتثبيت الرواية ومنحها تلك الجاذبية الخاصة، ستبدو فكرة حفر نفق بملعقة وساق كرسي بأهمية النفق نفسه، تمجيد الأدوات الصغيرة التي تصنع زلزالاً، هذه مهمة المخيلة الشعبية التي ستواصل منذ الآن مهمة الحفر في متواليات لا نهائية.
المخيلة التي التقطت حبة الصبير من رواية محمد العارضة ومنحتها بركتها كاملة، تبدأ من جوع الأسير وعطشه وتتواصل في كرم وطنه، ولا تنتهي عند “الحنين” الذي تحمله فكرة أن تلك الثمرة شبه البرية قطفها العارضة في نهاية موسم “الصبر”، كما لو أنها تأخرت بانتظاره، وأنها من سهول مرج ابن عامر المحتلة منذ النكبة.
لم تكن الخطة تحطيم أساطير المنظومة الأمنية الإسرائيلية وشبكة معسكرات الاعتقال، ولكنها فعلت ذلك.
لم تكن الخطة تصعيد المقاومة ونقلها الى مواقع جديدة واستعادة شيء من الثقة التي بددها الانقسام، والقمع، والفساد وسوء الإدارة، ولكنها على نحو ما فعلت ذلك.
الأمر بتلك البساطة، الأمر بذلك العمق “شاهدت نفقاً فخرجت”.
المصدر: النهار العربي