سميح صعب
من يتزعم أوروبا بعد التقاعد السياسي للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل؟ سؤال يدور على ألسنة المحللين والمراقبين للشأن الألماني والأوروبي.
على مدى 16 عاماً، هيمنت ميركل بشخصيتها القوية ومهاراتها السياسية على عملية اتخاذ القرارات في ألمانيا خلال أصعب المراحل، وتمكنت من الحفاظ على البلاد، قوة اقتصادية أولى في أوروبا، وإضطلعت بدور رئيسي في القرارات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً إبان الأزمة المالية التي عصفت بالغرب عام 2008، وقادت عملية الإنقاذ المالي لليونان في الأعوام التي تلت، على رغم التوتر الذي ساد العلاقات بين برلين وأثينا.
وكانت ميركل في صلب عملية التفاوض مع بريطانيا خلال عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، ما ساعد على معالجة الآثار التي خلّفتها عملية “بريكست” على تماسك الاتحاد واستمراره كمشروع راسخ وركيزة للاستقرار منذ عام 1957.
ويأتي تقاعد ميركل من الحياة السياسية في فترة من التحولات العالمية، التي تتطلب من أوروبا اتخاذ مواقف حتى لا تأتي هذه التحولات على حساب القارة. ويتعين على خليفة ميركل، ليس فقط تدبر الشؤون الداخلية الألمانية وإعادة التعافي إلى الاقتصاد الذي تكبد خسائر كبيرة بسبب الوباء، بل مطلوب من الزعيم الألماني المقبل المسارعة إلى الانخراط في المساعي الأوروبية لتحديد دور القارة في مرحلة يشهد فيها النظام العالمي تقلبات استراتيجية.
ولألمانيا بما تتمتع به من ثقل اقتصادي، مهمة أساسية في حماية المشروع الأوروبي، إلى جانب فرنسا. وتزداد هذه المهمة صعوبة في وقت لا تبدو العلاقات بين ضفتي الأطلسي على ما يرام. وأثبت الانسحاب الأميركي من أفغانستان بالطريقة التي تم فيها، أن الرئيس جو بايدن، يتجاهل هو الآخر رأي الحلفاء في قرارات بمثل هذه الخطورة، ولها انعكاسات على الدول الأوروبية أكثر بكثير مما يمكن تترك من تأثيرات في أميركا نفسها.
وبفاصل زمني ليس بالبعيد، أتى قرار أستراليا إلغاء صفقة الغواصات مع فرنسا واستبدال غواصات أميركية تعمل بالدفع النووي بها، وذلك في سياق إنشاء تحالف “أوكوس” بين واشنطن ولندن وكانبيرا للتصدي للنفوذ الصيني المتنامي في المحيطين الهندي والهادئ.
إلغاء الصفقة لم يهز العلاقات الفرنسية – الأميركية فقط، بل أكد بما لا يقبل الشك، أن أميركا في تركيزها على المنافسة مع الصين، تهمل أوروبا، أو في أفضل الأحوال تريدها تابعاً لها، من دون الأخذ برأيها.
أفغانستان ومن بعدها أزمة الغواصات، تضيف أعباءً جديدة على أوروبا، لأنه لم يعد ثمة مناص من البدء جدياً في الاعتماد على سياسة دفاعية مستقلة، وتالياً سيتطلب ذلك من الدول الأوروبية زيادة موازناتها العسكرية.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن أوروبا أن تقدم على الاستقلال دفاعياً عن أميركا، من دون أن يحصل تغيير في مهمة حلف شمال الأطلسي، الذي تقوده الولايات المتحدة، ويعتبر الأداة الأمنية والسياسية التي اعتمد عليها الغرب منذ تأسيس الحلف عام 1949.
هذه التطورات، ستفرض على خليفة ميركل التعاون مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لوضع رؤية أوروبية أمنية جديدة، تأخذ في الاعتبار أن الاهتمام الأميركي يكاد يتحول بالكامل إلى المواجهة مع الصين.
وفي إمكان ماكرون إذا ما فاز بولاية رئاسية ثانية في نيسان (أبريل) المقبل، أن يضطلع والمستشار الألماني الجديد، بوضع فكرة القوة الأوروبية المستقلة موضع التنفيذ، حتى يمكن الدفاع عن مصالح الاتحاد الأوروبي في العالم، وعدم البقاء بنسبة كبيرة رهينة للحماية الأميركية وحدها.
يتطلب ذلك حنكة ودراية استثنائيتين لإقناع بقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بأنه آن أوان تأكيد المصالح الأوروبية حيثما تلاقي هذه المصالح تجاهلاً من أميركا. وهذه مرحلة دقيقة وصعبة تستلزم قياديين من طراز ميركل.
وإذا كانت تراود ماكرون طموحات لقيادة أوروبا في هذه المرحلة في ضوء تقاعد ميركل، فإن من المبكر معرفة ما إذا كان فعلاً في إمكانه الحلول مكانها، في وقت يحتاج فيه إلى إقناع الأوروبيين بالسير خلفه. وهذه ليست بالمهمة السهلة إطلاقاً.
المصدر: النهار العربي