فايز سارة
ما زال نظام الأسد مستمراً في خياره العنيف وسياساته التي بدأها في مواجهة المظاهرات ضده عام 2011. ثم ذهب نحو تصعيد وتوسيع عمليات القمع قتلاً واعتقالاً وتهجيراً وتدميراً للقدرات الفردية والاجتماعية للسوريين، وزاد عليها تدمير غالبية قطاعات الاقتصاد السوري وأنشطته المختلفة، وفقد بالنتيجة غالبية موارد تمويل سياساته، ثم استدعى في مساره الروس والإيرانيين وميليشيات للقتال إلى جانبه من أجل استعادة سيطرته على البلاد، مما زاد من تكاليف سياساته، التي حاول حُماته من الإيرانيين والروس وغيرهم تمويلها في إطار موقفهم إلى جانب النظام، فقدموا عشرات مليارات الدولارات، وقدِّر حجم الإنفاق الإيراني في سوريا حتى عام 2019 بنحو 48 مليار دولار.
ورغم غياب الأرقام عن الاتفاق الروسي خلال السنوات العشر الماضية، فإن تقديرات ما قدمته موسكو في سوريا، يزيد على ما قدمته إيران في ظل فوارق جوهرية من حيث النوعية والتكلفة بين التقديمات الروسية والإيرانية، والفارق في خلفية تدخل كل منهما لا سيما لجهة أدواته وأهدافه.
وشهدت السنوات الأخيرة غمزاً ولمزاً في علاقات نظام الأسد مع الإيرانيين والروس، حيث صدرت تصريحات من حليفي النظام تتعلق بصعوبات استمرارهما في تقديم دعم واسع للنظام رغم أنهما حصلا في السنوات الأخيرة على امتيازات وعقود، وضعت معظم قدرات وإمكانيات البلاد بما فيها النفط والفوسفات والمطارات وميناءي اللاذقية وطرطوس لصالح الإيرانيين والروس، لكنّ بعض من الامتيازات والعقود ليس لها مردود، ما دامت أجواء الحرب والصراع في سوريا وحولها قائمة، مما يجعلها منافع مؤجلة.
لقد طوّر نظام الأسد في العامين الأولين من ثورة السوريين مصادر لتمويل حربه وسياساته، وكانت عمليات تعفيش ممتلكات السوريين البوابة الأولى، فتم إطلاق يد الجيش وأجهزة الأمن والشبيحة والقوى الرديفة مثل الدفاع الوطني والميليشيات المحلية، حيث أخذت تنهب كل ما حولها، ثم أضافت عمليات فرض خاوات على الناس، وشرعت بأعمال الخطف والاعتقال للحصول على المال.
وطوّرت أجهزة النظام وشبيحته جهودها من أجل زيادة مكاسبها، ووسّعت أهدافها لتشمل إفقار وإرهاب السوريين وإشاعة أجواء من الفوضى في البلاد، وفتحت الأبواب نحو تنشيط شبكات الإجرام التقليدية من سلب وقتل وسرقة ودعارة، قبل أن تفتح خطوطاً جديدة بينها تجارة الأعضاء البشرية، وملف المخدرات شاملاً زراعتها وصناعتها وتجارتها، ومثله ملف التهريب بين المناطق، متضمناً تهريب الأشخاص والبضائع والأموال.
ورغم أن هذه الجرائم تنعكس فوائدها المباشرة على أشخاص وعصابات وميليشيات تقوم بها، فإن فوائدها غير المباشرة تصب في خدمة النظام وأهدافه ثم تصب بعض عائداتها في خزينته، كما يبين الواقع. حيث إن الجرائم تؤدي إلى إشاعة الخوف والفوضى في الحواضن الاجتماعية للمتظاهرين والمعارضين، وتفتح الأبواب نحو إيقاع مزيد من الخسائر بهم مثل فقدان الأشخاص والممتلكات ثم النزوح إلى مناطق أخرى، أو الهجرة خارج البلاد، وهي فوق ما تقدم تضخ أموالاً في الأسواق، وتعيد توزيع «الثروة». وقد أبرزت هذه الجرائم مئات الأشخاص من أثرياء الحرب والذين أخذوا يلعبون أدواراً سياسية في حواضن النظام وفي مؤسساته ومنها مجلس الشعب والإدارة المحلية والمؤسسات الحكومية.
وبخلاف هذا النسق من الجرائم التي تدعم مسار الحرب وتخدمه وتمول النظام بصورة غير مباشرة، فإن النظام الأسد أطلق سياسات هدفها تمويل النظام وعملياته، ولعل في مقدمة تلك السياسات نوعين؛ أولهما يندرج تحت سياسة غضّ النظر على نحو ما يحصل في التعامل مع ظاهرة المخدرات.
وبخلاف ما سبق، فإن النظام اتّبع سياسات تمثل جرائم مباشرة في نهب وسرقة أموال وممتلكات السوريين، بينها مصادرة أموال وممتلكات مئات من المعارضين السياسيين، ومصادرة مناطق عقارية كاملة دون تعويض يُذكر لأصحابها بحُجة التنظيم انتقاماً من سكانها، كما حدث في بساتين الرازي غرب دمشق. وطوّر النظام هذه السياسة حين ربط بين التخلف عن أداء الخدمة العسكرية وعدم دفع البدل النقدي البالغ ثمانية آلاف دولار للسوريين في الخارج ومعاقبة أقاربهم في سوريا بمصادرة ممتلكاتهم.
وفتح النظام خطاً آخر في هذه السياسة، فرفع أسعار الخدمات لا سيما الخدمات الضرورية التي تديرها الحكومة ومنها الخدمات البلدية، وخدمات الهاتف والكهرباء والمياه، وأجبر الراغبين من المهجّرين في العودة إلى بيوتهم على دفع فواتير الخدمات منذ مغادرتهم تلك البيوت، التي غادرها البعض في عام 2011، وهذا لا يقل ظلماً عمّا يحيط بخدمة الحصول على وثائق رسمية ومنها الحصول على جواز سفر، وقد صارت تكاليفه بالنسبة إلى المغتربين أعلى من تكلفة أي جواز سفر في العالم.
وشمل هذا الخط تعديل السياسة الضريبية، فتم فرض ضرائب جديدة من جهة، وزيادة الضرائب المفروضة من جهة أخرى بالتوازي مع تردي مستويات الدخل، وتدهور بيئة الأنشطة الاقتصادية، مما جعل حياة السوريين تتدهور مثل كرة ثلج في وادٍ لا قعر له، وأصاب التدهور فئات عليا في المجتمع، ولم ينجُ منه إلا قلة في دوائر السلطة العليا واللاعبين بالمال وأنشطة الاقتصاد الأسود، وقدّرت مصادر دولية أن التدهور أصاب أكثر من تسعين في المائة من المقيمين في مناطق سيطرة النظام.
نحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد للتتبع وتناول مسارات نظام الأسد في تمويل سياساته ونشاطاته، وقليل منها يتصل فعلاً بسياسة تماثل سياسة حكومات دول العالم، لكنّ أكثرها يتطابق معها ويمكن وصفه بجرائم عصابات منظَّمة، ليس في طريقة الحصول على المال، وأغلبها طرق لا تتفق ومحتويات القانون الإنساني ولا الدولي، بل أيضاً في طريقة صرف المال الذي يُدفع الكثير منه ثمناً لأسلحة وذخائر منها أسلحة كيماوية وبراميل متفجرة تُلقى على التجمعات السكنية بما فيها الأسواق والمساجد والمدارس، وجزء من الأموال يُدفع أجوراً لمجرمين يقتلون السوريين ويهجّرونهم نحو المجهول، والباقي من الأموال يتحول إلى أرصدة بأسماء أركان النظام وشبيحته.
المصدر: الشرق الأوسط