أكرم البني
الحديث عن اقتراب معركة واسعة يُحضّر لها لحسم مصير إدلب، في ظل تواتر غارات الطيران الروسي، وقصف مدفعي سوري، وأنباء عن وصول تعزيزات لقوات النظام إلى المحاور الشرقية للمدينة… تزايد المؤشرات حول إطلاق عملية عسكرية تركية في الشمال السوري ضد الوجود الكردي، ربطاً بقصف مدفعي متبادل وبدء الحشود العسكرية على أكثر من محور… استمرار الغارات التي تشنها الطائرات الإسرائيلية ضد مواقع متقدمة لنظام دمشق وتمركزات الميليشيا الإيرانية ومخازن أسلحتها….
كل ما سبق يشي نظرياً باحتمال نشوب حرب في سوريا على إحدى تلك الجبهات، لكن عملياً تبدو حرباً مؤجلة، إنْ لعدم قدرة الأطراف المتحاربة على تحمل تكلفتها، وإنْ تحسباً من تعقيدات مسارها وغموض ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج.
صحيح أن احتمال نشوب حرب بين إسرائيل وما يسمى محور الممانعة، وضع مرات عديدة على نار حامية، مع احتقان نفوس أطراف هذا المحور من الأذى الذي تلحقه ضربات الطيران الإسرائيلي لمواقعهم، وإصرار تل أبيب على الذهاب بعيداً لمنع نقل أسلحة متطورة لـ«حزب الله» ولإجهاض خطط «الحرس الثوري» الإيراني في خلق ركائز عسكرية من الميليشيا التابعة له بالقرب من حدودها، لكن الصحيح أن الطرفين يدركان وطأة الثمن المتوجب دفعه لقاء هذه الحرب، فلا قدرة لحكام طهران على فتح باب الحرب مع إسرائيل، بينما تستنزفهم صراعات النفوذ الإقليمي، الذي من أجله لديهم كامل الاستعداد لإغراق مجتمعات سوريا ولبنان والعراق واليمن بالدم والخراب، كما يتحسبون من أن تكلفهم تلك الحرب، استقرار منظومة تسلطهم، وربما تفكيك تحالفاتهم، وتراجع قبضتهم وعزم سيطرتهم، بينما لا شيء يضير إسرائيل من الاستمرار في لعبة القصف من بُعد، ما دام يمكّنها من تحجيم الوجود العسكري لإيران وميليشياتها في المنطقة، ومن استثمار بقاياه، لشل الحياة السياسية في بلدان المشرق وتدمير فرص تطورها، ولإشغال الأطراف العربية ومحاصرتها.
وصحيح أيضاً، أن الحياد الغربي والانكفاء الأميركي وما ترتب على الانسحاب العسكري من أفغانستان، شكلت حافزاً كي تتحرك مختلف الأطراف المؤثرة بالوضع السوري لإعادة ترتيب أوراقها وحصصها، حتى لو فُرض خيار الحرب، وصحيح أن الوضع السوري في ظل اهترائه الاقتصادي والاجتماعي لم يعد صالحاً لتنفيذ رؤية موسكو ومراميها، ويتطلب التغيير، ربما بافتعال حرب تكسر إصرار أنقرة على الاحتفاظ بمواقعها ونفوذها في سوريا، وتبدل الواقع الميداني المجمد في مدينة إدلب منذ اتفاقات مارس (آذار) العام الماضي بين روسيا وتركيا، لكن الأرجح أن دوائر صنع القرار في موسكو لا ترغب في خوض حرب قد تكلفها كثيراً، وهي تدرك أن أي هجوم واسع على إدلب سيقوض اتفاقات آستانة، التي تعتبرها مساراً وحيداً للتسوية السورية، في مواجهة مسار جنيف وقرارات الأمم المتحدة، كما تدرك أن خيار الحرب يهدد العلاقات الاقتصادية المتنوعة مع أنقرة، بما في ذلك خطوط نقل الغاز، فكيف الحال إذا كانت موسكو تشكك في قدرة النظام السوري والميليشيا الإيرانية على بسط سيطرتهما السريعة على المنطقة وضمان استقرارها، وتتحسب من تداعيات رد فعل الاتحاد الأوروبي الذي سيواجه موجات لجوء كبيرة، مع اكتظاظ محافظة إدلب بملايين النازحين؟! وكيف الحال حين يكون الدور التركي في الملف السوري، مطلوباً عند موسكو كي يحد من تنامي دور طهران، الذي تزداد مثالبه وإشكالياته مع تصاعد الصراع المستتر بين قيادة الكرملين وحكام إيران حول الامتيازات والمنافع ومواقع النفوذ في سوريا؟
على الرغم مما تعلنه تركيا حول ضرورة الحرب التي تهدد بشنها في شمال وشرق البلاد، للحد من مخاطر الوجود العسكري الكردي، يبدو من المستبعد إقدامها، بما يصح اعتباره مغامرة، على احتلال مدن وبلدات في سوريا خضعت لسنوات للإدارة الذاتية الكردية، بما يعنيه ذلك من تسعير عداء الأكراد عموماً لها، ووضع جيشها في أتون حرب عصابات تتقنها القوات الكردية جيداً، ويرجح أن تهتك سمعتها وتكبدها خسائر بشرية فادحة قد تنعكس على شعبية حزب العدالة والتنمية مع اقتراب الانتخابات النيابية، كما أن هذا الخيار يصطدم بداهة ليس فقط بموقف الولايات المتحدة الرافض لأي عملية عسكرية واسعة ضد حلفائها الأكراد، بل بموقف روسي يبدو أكثر تشدداً لما قد تخلفه هذه الحرب من إعادة رسم المشهد السوري بصورة لن ترضي موسكو وتتعارض مع حساباتها وطموحاتها، من دون أن نغفل أن مثل هذه الحرب ستدفع الإدارة الذاتية الكردية للإسراع في توثيق علاقتها مع القوات الروسية والسلطة السورية، كما قد تنعكس بتسويغ تشدد موسكو في جبهة إدلب وما قد يترتب على ذلك من تطورات قد تضع حكومة أنقرة في حرب مفتوحة على أكثر من جبهة سورية.
فهل يصح الاستنتاج بأن تركيا إنما تحاول عبر التهديد بالحرب توظيف هذه الورقة للجم الاندفاعة الروسية في إدلب، وربما لإعاقة حصول أي توافق لا يراعي مصالحها الأمنية بين موسكو وواشنطن في حال قررت الأخيرة سحب قواتها من سوريا؟ أم أن غرضها هو الضغط كي تكون موسكو هي الضامن لاحتواء وتطويع القوات الكردية وإبعاد أذاها عن الحدود التركية، وللعودة إلى اتفاقية أضنة عام 1998 في حال أعاد نظام دمشق سيطرته على المناطق الكردية؟ ثم ألا يصح أن ننظر من هذه القناة لمحاولة أنقرة استمالة موسكو وإرضاءها عبر الضغط على الجماعات الإسلاموية في مدينة إدلب لطرد المسلحين الأجانب، وأوضح مؤشراته الحملة التي شنتها، مؤخراً، هيئة تحرير الشام ضدهم في ريف اللاذقية، واعتقلت خلالها أبو موسى الشيشاني، شقيق قائد فصيل «جنود الشام» مسلم الشيشاني، ومعه عبد الله البنكيسي الشيشاني، وأبو العبد الله الشيشاني، أثناء محاولتهم الهروب إلى تركيا.
الكل يهدد ويتوعد بالحرب، والكل يحرص عملياً على تجنبها ويتحسب من تكلفتها وتداعياتها، بينما يذهب الوضع السوري نحو المزيد من التفكك والاهتراء، ما يرجح، واستناداً إلى تجارب السنوات المنصرمة، أن هذه الحرب تبقى ضعيفة الاحتمال أو مؤجلة، من دون أن يعني ذلك استبعاد ارتفاع حدة التصعيد والقصف والاغتيالات بين الفينة والأخرى، أو حصول بعض المعارك هنا وهناك، لكن تبقى محدودة وذات طابع تكتيكي، وغالباً لتحسين الموقع وكسب النقاط.
المصدر: الشرق الأوسط