سمير التقي
بعد عودته الأولى إلى طنجة، وصف ابن بطوطة في القرن الرابع عشر، عالماً تنمو فيه إرهاصات الثورة العلمية، وأواصر التواصل التجاري، لكن تتداعى فيه حدود الإمارات، وتشتعل الحروب بين المغول الترك والفرس، وتنهار الممالك في كل الأمصار، وينتشر الطاعون في مصر والشام. كان بديهياً، وأنا أراجع عواصف التطور التقني، والحدود المتداعية، والدول المأزومة، وكوفيد في العام الماضي أن استدعي زمن ابن بطوطة.
تحولات تكتونية كبرى تجري من حولنا ستنعكس علينا بشكل منقطع النظير، في حين صار العالم بأسره أكثر قلقاً وتحفزاً وعصبية. وأزمة كوفيد وما تبعها ليست سوى “اختزال للتاريخ في أيام” كما قال لينين. وفي حين تصهر أسواق الأسهم الاقتصاد العالمي، يزداد الشعور بالهشاشة الجيوسياسية.
في شرقنا تواجه كل الدول من دون استثناء أزمات عصية خانقة، لا تزداد قوة أي دولة، وأغلبها يضعف، وبعضها ينهار. وإذ لا تلغي التكنولوجيا الجغرافيا ولا المسافات، فإنها تطحن الجغرافيا وتفتت أحجارها، لتصطدم الدول وتتصارع وتصعد الهويات. إنه عالم جديد تماماً، يغير ثوابت النظام العالمي العتيق لما بعد الحرب العالمية الثانية.
أمام هشاشة منظومة الدولة الوطنية الحديثة في إقليمنا، تعود الى الصعود مشاريع الإمبراطوريات التي حكمت أكثر من 95 في المئة من تاريخ الإقليم، سواء بتعبيراتها الشيعيّة، أم السنيّة، أم الرومية، أم غيرها.
بهذا المعنى يتعرض نظام الدولة القومية لما بعد الامبريالية للاهتزاز بقوة. ذلك أننا، إذا كنا نريد أن نفهم روح السياسة الخارجية الإيرانية والروسية والتركية وسياسات الإسلام السياسي، يجب علينا العودة الى عقلها الإمبراطوري.
وإذ يختزن إقليمنا الكثير من الأزمات الداخلية الخانقة المتلاحقة المؤجلة قيد التخمر والنضوج، فإنه يهتز بشدة على إيقاع عواصف المناخ الدولي والإقليمي.
التبدل الأهم يحصل في مقاربة الولايات المتحدة دورها العالمي، وعودتها النهائية كدولة إمبريالية بحرية! وهي على نقيض الإمبرياليات البرية، تنفك عن البر، لتركز على ضمان الهيمنة على مسارات التجارة العالمية في المياه الزرقاء لأعالي البحار. وبالنسبة إليها، تمر التجارة العالمية في منطقة الشرق الأوسط، بمضائق وبحار ضيقة، لذلك نجدها تتمسك بهيمنتها على المياه الخضراء، أي البلدان المشاطئة للممرات، كمراكز ذات أهمية إستراتيجية.
بانفكاك أميركا عن البر الآسيوي ينفتح الفضاء اليورو-آسيوي (الأوراسي) على كل الرياح والأعاصير، في زمن التغيير المناخي الاستراتيجي العميق. وفي قلب هذا الفضاء يقع شرقنا العاثر.
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب العالمي الوحيد في الشرق الأوسط. وبعد أن كانت جيوستراتيجيا الشرق الأوسط شأناً أميركياً بامتياز، يعيد الانفكاك البري الأميركي الاعتبار للجيوستراتيجيا لتصبح موضع صراع واسع.
ها هي روسيا تحاول أن تتقدم لكنها، وبسبب ضعفها الاقتصادي النسبي، لم تكن قادرة إلا على دور الوسيط المدجج بالسلاح. لكن ليس السلاح ما ينقص الإقليم، لتختنق بفرط قوتها.
لكنّ ثمة قلقاً حقيقياً في الإقليم، في أعقاب أفغانستان. وتقرع الصين الباب بثبات. وتنمي استثماراتها الاقتصادية والتكنولوجية بشكل تاريخي. وتكفي زيارة واحدة لمصر وإثيوبيا وإسرائيل لنرى مستوى الاستثمارات التي توظفها لمد نفوذها التجاري ثم السياسي والعسكري، بمليارات الدولارات وبمشاريع بنية تحتية أساسية. وفي هذا السياق لا تسعى الصين الى تلقين مبادئها للدول، بل تتعامل مع الكيانات القائمة كما هي.
وبالرغم من أن الأضواء متركزة حالياً على الصين، فثمة زبون جديد قادم بالرغم عنه الى الإقليم. سيغير كل المعادلات. انه أوروبا! لقد نعمت أوروبا بفترة استثنائية من الاستقرار حين كانت تحت احتلال الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، ما سمح لها بازدهار منقطع النظير وفرته المظلة الاستراتيجية الأميركية. سمح هذا الوضع لأوروبا بالانعزال عن فضائها الجيو-استراتيجي التاريخي والطبيعي، وبأن تنقطع عن الشرق الأوسط والبحر المتوسط وشمال أفريقيا، وحماها بالطبع من روسيا. وكانت الدول الشمولية في الشرق الأوسط مستقرة في قوقعة الحرب الباردة، بحيث كانت الهجرة مستحيلة، ما أتاح لأوروبا أن تعطي دروساً للعالم في حقوق الإنسان. لكن المؤرخ الفرنسي الكبير فرديناند بروديل قال في القرن الماضي إن “الحدود الجنوبية لأوروبا ليست اليونان وإيطاليا وإسبانيا، بل تمتد الى شرق المتوسط وشمال أفريقيا”. عام 2014 كنت في أحد المؤتمرات الدولية قال لي مسؤول أوروبي كبير أن أوروبا مستعدة لأن تجعل من المتوسط جداراً لمنع الهجرة (بغض النظر عن كل المواثيق الدولية)، أجبته بأن الأفضل أن تجعلوا منه جسراً. نحن لا نتحدث هنا عن لاجئي الحرب من سوريا وأفغانستان وليبيا، بل عن ذلك التدفق الطبيعي للبشر عبر المتوسط والذي سيستمر نحو جميع أنحاء أوروبا طوال القرن الـ21. بل إن الأمر يذهب الى أكثر من ذلك بكثير. إذ تعود دول أوروبا وبتردد كبير للتسلل الواحدة بعد الأخرى، لتعيد جسورها مع فضائها المتوسطي والأوسطي. فليس شرقنا وحده الذي يذهب الى أوروبا، فإن أوروبا والحال هذه تفضل أن تأتي هي اليه، ولعلها تعود لإدراك عمق بصيرة بروديل.
سيكون من السذاجة الاعتقاد أن هدف أوروبا مجرد الترويج لأسلحتها، فهي تنخرط في عمليات سياسية أعمق بكثير من مجرد بيع السلاح.. من ليبيا، إلى سوريا من جديد، إلى لبنان، إلى النزول العسكري الأوروبي والتركي في سوريا والخليج، إلى صفقات الرافال والهليكوبتر، إلى الحشود في المتوسط، إلى دعم التطورات الأخيرة في العراق تعود أوروبا بدلال الى المتوسط والأوسط. وفي هذه الصحوة الجيو-استراتيجية، تكف أوروبا عن تلقين الدروس الأخلاقية. فالجيو-استراتيجيا هي الأهم. وهي بذلك لا ترقص منفردة، بل ترقص على إيقاع نظام عالمي بازغ وضمن هوامش توافقها الأطلسي.
وبذلك تختفي أوروبا كفضاء استراتيجي معزول، لتغدو من جديد موضوعاً مفتوحاً وفضاء مشرّعاً على جنوبها، ليعود المتوسط مساحة تتلاطم فيها الأمواج وتتصارع السفن. وما لم ندرك عمق التحول الجاري، فلن نكون قادرين على فهم أي شيء لا في مدينتنا ولا في بلادنا ولا في إقليمنا وبالطبع ليس في هذا العالم.
المصدر: النهار العربي