علي محمد شريف
الحبّ درج الكهولة إلى الطفولة، عناق داليتين نائيتين، وشوشة الأصابع وهسهسة الجسد، الحبّ يدان تلوحان لموج البحر، مقعد خاوِ وشالٌ يتلوّى فوق الرمل، صورة للشغب المغادر باحة القلبِ ولا أحد، والحبّ بيت الغريب، صوته الرعويّ، شرفته المطلّة على البراري والخيول والأبد.
ليس خرافة تسكن شعاب التيه، ولا طلسماً على جدران أقبية العزلة، إن هو إلاّ الحبّ عارفاً ومعرَّفاً بذاته يقرع أجراس الحقيقة، يمضي في الطرقات الصاعدة إلى مدائن الحرية والنشور، حاملاً مصباحه العتيق يمضي في المسالك المعبّدة بشوك اليأس والمدججة بأفخاخ الرغبات الفانية وكمائن الطاغوت، ينثر باقات العرفان لمن أظلمت روحه وضلّ السبيل.
هو الحبّ يأتي محفوفاً بجلاله وكماله بغير مراسم ولا مواكب. يطرق أبواب الفقراء والمعذبين، ينقر نوافذ صباحاتهم المغمّسة بالقهر ويرسم على بللورها الباهت قمراً أخضرَ ونجوماً حمراء، ينسلّ إلى مناماتهم الموحشة، يقبّل وجناتهم الباردة المضمّخة بغبار التعب، وحين تنهض قاماتهم باتجاه الضوء يغدو الحبّ قِبلتهم ويسري في عروقهم المترعة بالعزيمة واليقين.
لا مواقيت لبروق الحبّ ولا ميعاد مقروناً بالحضور، لكنّه الوردُ تتفتح بتلاته في غفلة عن الصلصال، وقل الوعد الذي أنجزته الريح يباغت قلق العابد في محراب اللهفة ويرمي السلام على الروح ذات خوف وعطش.
عارياً ممّا يحجب فتنته يتلألأ الحبّ. إنّه النور، ليس كشمسٍ تفصح عن ضوئها المستتر، تبزغ في سماء زرقاء أزاحت عن كاهلها عبء الليل والسحب العابرة، بل هو البرق يومض في عتمة الروح المزمّلة بالرجاء والمكتظة بالرماد والدخان، ويكشط السواد المتلبّد عن قلوب يائسة.
هو الحبّ لا يعرف الانكسار ولا الانتظار، لا الهروب ولا السقوط، ولا يعترف بغير الجمال سمتاً وسبيلاً وغاية، يرفض سوى الخير ثمرة وميزاناً، هو ثورة على الظلم والكراهية والقبح، وهو التمرّد على القيود والأغلال، هو برهةٌ فاصلة بين الموت والولادة يتبدّد معها سِفْر الخوف وتتكسر مزامير الردح والقنوط.
وحين نحبّ تتشابك أصابع العائدين من سفرٍ وتيه، يزهر التفاح وتستعيد الأرض ضحكتها واسمها الغجريّ، حين نحبّ نسترد الاسم والمعنى والطمأنينة المغادرة، لا مكان في صدر المحبّ سوى للحبّ ولحياة تستحقّ مطلق البذل والعطاء. لا فائدة ترجى من استجداء الموت، ولا مبّرر للقلق والحزن، لا معنى للبقاء في دوّامة الأسئلة ذاتها ولا لانتظار إجابات فقدت جدواها وبريق حضورها، بات كل ذلك من الماضي المغرق في البؤس، سنرشق الحياة بزهر الحبّ وبالأسئلة، وستمنحنا الحبّ والحقيقة والطريق.
لدينا ما يفيض عن حاجتنا من الغضب، وقد امتلكنا من يقين الحبّ ما يقينا من الغرق في دوامة البحث عن أسباب الخسارات والألم، لقد اكتفينا من النظر إلى نفوسنا الضالّة في مرآة ذواتنا المعتلة المتورمة، آن لحواسنا أن تغوص في مياه بعيدة غير مياهنا الراكدة، أن نستشرف آفاقاً لا حدود لامتدادها وسعتها، أن نعيد البوصلة تجاه الهدف ونستعيد الإيمان والثقة.
يحدث أن تتلبّد السماء برماد الحرائق وتهتزّ الأرض بهدير غامض، ثمّة طقطقة تسمع للجذور وموسيقى تعزفها البراعم، إنّه أوان البروق فالفضاء مكفهرّ عبوس والرياح تعصف بالجذوع الهرمة وتقتلع الطفيليات وتطيح بالهوائم، الظروف ملائمة لاحتكاك غيمتين داكنتين مشبعتين بإكسير الحياة، عمّا قليلٍ تشتعل جذوة الحبّ وتنشر ضياءها على ذرى الجبال وتتدفق ينابيع الدفء في بطون الأودية وبين الضفاف.
المصدر: اشراق