د- زكريا ملاحفجي
رحل الحاج بشير صباغ وقد ترك في قلوبنا أثراً كبيراً، رحل الرجل الحكيم الكريم الودود الأصيل. ولد الحاج بشير صباغ عام 1943م في مدينة حلب من عائلة معروفة تعمل في صياغة الذهب وتجارة المعادن الثمينة، تعلّم أخلاق وأسرار المهنة منذ نعومة أظافره، وكان يشتري أي رقم من كيلوات الذهب في سوق الصاغة الكائن في السوق القديمة (المدينة) بضمان اسمه فقط، وهذا كان العرف عند تجار سوق “المدينة” في حلب، حيث سمعة التاجر هي رصيده المفتوح مع تجار السوق، وسمعة الحاج بشير صباغ كانت أثمن وأنصع من الألماس ذاته، وقد انتُخب رئيسًا لنقابة الصاغة في حلب وكان ذو خبرة واسعة بصياغة الذهب وتجارة المعادن النفيسة…
زار التلفزيون الفرنسي الحاج بشير في التسعينيات من القرن الماضي للحديث عن صياغة الذهب وسوق المدينة الذي يعتبر أقدم و أطول سوق قديم ومسقوف في العالم حيث يصل طوله إلى 12 كم مقسمة حسب السلع والتخصصات لذا كان مجمعًا تجاريًّا أثريًّا قديمًا.
كان الحاج بشير حكيماً وكريمًا وجوادًا وأباً للنشطاء الثوريين في حلب لذا قام النظام بسرقة محلاته وبيته الفاخر (الفيلا)الذي كان يسكنه وقد ذكر لي مرة بأن مجموع ما سرقه النظام منه يعادل 24 كيلو من الذهب الخالص إلا أنه بقي صابراً محتسباً.
أقام رحمه الله في مدينة استنبول التركية في بيت صغير بالإيجار، وكان مدرسة بسلوكه وشموخه وصبره….
حاول بعض أعضاء مجلس الشعب لدى النظام إغرائه بـ 5 كيلو من الذهب ليعود إلى سوق المدينة ويمارس تجارته فرفض وفضّل اللجوء إلى فرنسا وأقام في مدينة نانسي إلى أن وافته المنية.
كانت علاقتي به تفوق علاقة الأب بابنه ولا أذكر بأني زرت استنبول يومًا دون أن أزوره وأنعم بصحبته.
وكان رحمه معجبًا بالنشاط الذي أقوم به، ولطالما شجعني وشد على يدي وقوّى من عزيمتي.
كان الحاج بشير يحب حلب حباً جماً، وقد روى لي مرة رواية مشهورة يتداولها الكبار في حلب لا أعرف مدى صحتها…
قال: سُئل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني إن قامت الحرب وهُدمت استنبول فمن يعمرها؟
فردّ: تعمرها حلب! ولكن إن هدمت حلب فمن يعمرها؟
فكلاهما أقدم حاضرة في المنطقة.
كنت قد صحبته في أسفارٍ وزيارات عديدة فوجدت فيه روحًا مرحة لا تصفها المفردات وكان ناصحًا لطيفًا لبقًا، وكثيراً ما يذْكُرُني بالخير بين أصدقائه.
أحبَّ الحاج بشير السوريين والحلبيين بشكل خاص، لم نره يوماً إلا متفائلاً، كان دائم القول: “يا زكريا لا تهتموا! سيسقط هذا الساقط مهما حصل”.
هذه الروح المرحة والحكمة والتفاؤل والصبر على شظف الحياة هي سمة الكبار سلوكًا وقولًا
وفعلًا فإن لكل امرئ من اسمه نصيب، كنت بشيرًا للخير والتفاؤل…عشت كبيراً ورحلت كبيراً يا حج بشير.