ماريا ساشيكو سيسير*
ترجمة: موفق ملكاوي
خلال العقود الأخيرة، تغير الكثير في كتابة الخيال، لكن كلمة “خيال” ما تزال تستجلب صور التنين والقلاع والأبطال المحاربين وبرية ما قبل الحداثة المليئة بالسحر. الظواهر الكبرى مثل “هاري بوتر” و”لعبة العروش” ساعدت بجعل خيال القرون الوسطى سائدا. إذا نظرت بقسم الأطفال في المتاجر اليوم، فسترى نسخا لكتابات العصور الوسطى السحرية للشباب من كل عمر. كيف انطلق الخيال في عوالم القرون الوسطى الزائفة، وحقق الإنجليز مثل هذه الحالة الثقافية؟ وللمفارقة، فإن الشكل الحديث لهذا النوع الأدبي الشائع جدا، والذي غالبا ما يرتبط بالهروب من الواقع والطفولة، ترسخ في واحدة من أكثر مساحات النخبة في العالم الأكاديمي.
يدين نشوء الأدب الخيالي من التراث العلمي لاثنين من علماء القرون الوسطى بجامعة أكسفورد: جي آر آر تولكين، وسي إس لويس. تولكين ولويس كانا صديقين وزميلين ينتميان لمجموعة كتابة تدعى “إنكلينجز” تشاركا مسودات شعرهما وقصصهما في أكسفورد. هناك عملا على ما سيصبح كتب تولكين للأرض الوسطى، بدءا من رواية “الهوبيت” (1937)، ثم في الخمسينيات سلسلة “سيد الخواتم” و”سجلات نارنيا” للأطفال. تأثير تولكين في الخيال مهم جدا. في التسعينيات حدد الأديب الأميركي براين أتيبيري نوع كتابة تولكين عن الأرض الوسطى “ليس بالحدود وإنما بالمركز”، وأن “شكل تولكين للخيال، بالنسبة للقراء باللغة الإنجليزية، هو نموذجنا العقلي”، كما يقول في كتابه “استراتيجيات الخيال” (1992). لويس كتبه مبدعة كذلك. هيكل الحبكة المتكرر لأطفال العصر الحديث الذين يخرجون لإنقاذ عالم آخر سحري من العصور الوسطى، أصبح أحد الأساليب الأكثر شيوعا لهذا النوع الذي تم تحديده من فرح مندلسون على أنه “بوابة البحث”.
ما لا يعرفه كثيرون، أن تولكين ولويس صمما المناهج الدراسية لمدرسة أوكسفورد الإنجليزية المتطورة التي علمت جيلا ثانيا من المؤلفين المهمين لأدب الطفل الخيالي. بإقراره العام 1931 وتركيزه على فترة القرون الوسطى مع شبه استبعاد للعصور الأخرى، قاد المنهج الطلبة في القراءة والامتحانات حتى 1970، وما تزال جوانب منه قائمة حتى اليوم.
ورغم أنه لا يوجد سعي كبير حتى اليوم بربط الأنشطة بالكتابة؛ الكتابة الخيالية للأطفال، وتصميم المناهج بأقدم وأعرق جامعات إنجلترا، إلا أنهما ظلا مرتبطين بقوة. روايات تولكين ولويس تشير دائما لأعمال في المنهج الذي ابتكراه، واعتمد خلفاؤهم الذين تلقوا تعليمهم في أكسفورد على مصادر العصور الوسطى عندما بدأوا بكتابة الأطفال الخيالية لاحقا. بهذه الطريقة، تمكن تولكين ولوليس من شن هجوم داخل الأكاديمية وخارجها؛ على الالتباس النسبي لخيبة الأمل، وعلى التقدمية البغيضة لحداثة القرن العشرين.
أعرب تولكين عن مخاوفه بشأن التغيرات الثقافية التي تجتاح بريطانيا من حيث “التأثير الأميركي، الروح المعنوية، النسوية، والإنتاج الضخم”، ليقول “هذه الكوزموبوليتية الأميركية مرعبة للغاية”، واقترح في رسالة لابنه كريستوفر العام 1943 أنه إذا كان ذلك نتيجة انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فإنه ليس متأكدا أن النصر سيكون أفضل لـ”العقل والروح” ولإنجلترا من خسارة القوات النازية.
لويس اختبر هذا المقت للتكنولوجيا “الحديثة” والعلمنة والتفكيك السريع للتسلسل الهرمي للعرق والجنس والطبقة. الاثنان رأيا التحولات الكبيرة تنعكس في تغير الأعراف الأدبية (وفي تقديرها بطريقة خطيرة). في ثلاثينيات القرن العشرين، كتب تولكين صابا غضبه على “النقاد”، بمقال واسع الانتشار، لتجاهلهم التنينات والغيلان الخيالية، واعتبارها “مخلوقات غير عصرية”، في القصيدة الإنجليزية القديمة “بيوولف”. استهان لويس بالأدباء الحداثيين في كتابه “تجربة النقد” (1961)، مستهزئا بأقرانه المعاصرين المتحمسين، مثل تي إس إليوت، ومدعيا أنه “بينما يستمر إليوت بالطابق السفلي، فإن التجربة الأدبية الحقيقية الوحيدة قد تحدث بغرفة نوم خلفية، حيث صبي صغير يقرأ جزيرة الكنز على ضوء مصباح يدوي تحت أغطية السرير”. إذا كانت الثقافة الأدبية الجديدة تسرع بالانزلاق للانحلال الأخلاقي، فقد حدد تولكين ولويس الخلاص في الاستمتاع الطفولي الحقيقي بالمغامرة والقصص الخيالية، خصوصا تلك الموجودة في أراضي العصور الوسطى. ومع جيوش بأسلحة غير متوقعة وطفولة غير اعتيادية من العصور الوسطى، شن تولكين ولويس حملة تعتمد على نشر الخيال في المجالين؛ الشعبي والعلمي. نجحا بشكل استثنائي في ترك علامات بعيدة المدى على الخيال العالمي بإطلاق مسار بديل للكتابة انتشرت قراءته بداية بين الأطفال.
هؤلاء القراء التهموا “الهوبيت”، ولاحقا “سيد الخواتم”، وسلسلة “سجلات نارنيا”. لكنهم قرأوا أيضا الفانتازيا لمؤلفين لاحقين بدأوا بالكتابة في هذا السياق، منهم كتاب أطفال بريطانيون كبار درسوا مناهج اللغة الإنجليزية التي أسسها تولكين ولويس في أكسفورد. اجتاح المنهج الاتجاهات التي كانت الجامعات الأخرى تعتمدها. عندما أصبحت الحداثة شريعة وبدأت النظرية النقدية بالتقدم، طلبت أكسفورد من طلبتها قراءة الأعمال الإنجليزية الخيالية المبكرة بلغتها الوسيطية الأصلية، والتعليق عليها مثل “بيوولف”، و”السير جاوين والفارس الأخضر”، و”السير أورفيو”، و”لو مورتي دي آرثر”، و”رحلات جون ماندفيل”.
كان على الطلبة تحليل النصوص كأدب وليس كمقتطفات لغوية فقط، وهو اختلاف ملحوظ عن النهج الأكثر شيوعا لأدب العصور الوسطى في ذلك الوقت. حدد تولكين ولويس دروسا أخلاقية ملموسة ورؤى “وطنية” في شخصيات هذه الحكايات السحرية. الماضي الذي صوراه، لم يكن، بالتأكيد، إنجلترا الفعلية كما كانت في العصور الوسيطة، لكنها إنجلترا كما تخيلها الشعراء: عالم البطولة الساحر، والإنصاف والرومانسية حيث حدد القوميون في القرن التاسع عشر المعنى الأخلاقي والعرقي لقلب الأمة. (بهذا المفهوم، كان منهج أكسفورد بمثابة ارتداد لجذور الدراسات الإنجليزية في التعليم الاستعماري، والذي، كما أوضحت الباحثة جوري فيسواناثان في “أقنعة الفتح” (2014)، غالبا ما يسعى لإثبات حق اللغة الإنجليزية في الحكم من خلال مجدها الوطني الأدبي.
البرنامج التعليمي الفريد الذي سيطر على اللغة الإنجليزية في أكسفورد زهاء 40 عاما، أقر أعمال العصور الوسطى المليئة بالسحر رسميا كنماذج للأدب الإنجليزي لأجيال من الطلبة الذين مروا بالجامعة الصارمة. عدد من الطلبة كتبوا خيال الأطفال الشعبي، ونال بعضهم الاستحسان الكبير، خصوصا ديانا وين جونز، سوزان كوبر، كيفن كروسلي هولاند وفيليب بولمان، الذين تحصلوا على شهاداتهم باللغة الإنجليزية بين 1956 و1968، اعتمدوا على مصادر أدبية من العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، وكثير منها مأخوذة مباشرة من منهج أكسفورد، لخلق نماذجهم الخيالية الذاتية للقراء الصغار. مع تولكين ولويس، تشكل هذه المجموعة مدرسة أكسفورد لأدب الطفل الخيالي. خماسية كوبر “الظلام يرتفع”، (1965-77) و”ثلاثية آرثر” لكروسلي هولاند (2000-2003) منحت قصة الملك آرثر سياقا جديدا وصدى لفهم بريطانيا في ذلك العصر؛ في الأثناء، فإن أعمال جونز وبولمان تنشط في تخريب التوقعات الخيالية أثناء تقديم الأدب الإنجليزي المبكر لأجيال القراء الجديدة. جميعهم يحتفون بالحكمة المزعومة للقصص القديمة، ويتبعون العقيدة المركزية التي وضعها تولكين للقصص الخيالية: “أمر واحد لا ينبغي السخرية منه، إنه السحر. في القصة، ينبغي أن يؤخذ ذلك جديا، لا نسخر منه، ولا نلجأ لتفسيره”.
التصور الجديد الذي أنشأته مدرسة أكسفورد لحكايات العصور الوسطى للجمهور الحديث، عبأ الوعي العام بهذه الروايات الخيالية، ما أدى، غالبا، لتحييد ملاحظات النخبة والأكاديميين، لأن أعمالهم وصفت بأنها أدب أطفال. بالتزامن، ساعد اتخاذ النصوص القديمة المعروفة أساسا لقصص جديدة على منح خيالهم العمق التاريخي والوزن الثقافي لمقاومة السخرية. مثلا، حلقة التنين في نهاية “الهوبيت” مليئة بما هو موجود في “بيوولف”، من سرقة الكأس التي توقظ الدودة إلى تعبيراتها القاسية عن الغضب. لكن “الهوبيت” تستخدم هذه الرواية لتحريض البطل التقليدي والنبيل المولد (بارد، الذي يعني اسمه “شاعر”، أو “راوي القصص”) ضد مسؤول منتخب غير جدير بالثقة، ما يحد من أهمية التقاليد المحافظة على أهواء الجماهير التي يسهل تأرجحها. تنتهي رواية تولكين باكتشاف البطل بيلبو المبتهج لهذه الأخلاقية شبه المحجوبة: “نبوءات الأغاني القديمة اتضح أنها صحيحة”.
سطعت مقاربة مدرسة أكسفورد للقرون الوسطى إلى الخارج، ما أثر على العديد من مؤلفي وقراء الخيال للأطفال، وساعد في تحويل الانبهار “الأنجلوفيلي” ببريطانيا المبكرة وأساطيرها في العصور الوسطى إلى مكان معترف به عالميا لمغامرات الأطفال وأعمال إنقاذ العالم والإمكانيات السحرية. وبينما قاوم تولكين تصنيفه كمؤلف للأطفال، جاء تحوله هو ولويس نحو أدب الأطفال كوسيلة للتغيير الثقافي القادم في اللحظة المثالية. كما يلاحظ سيث ليرر في تاريخه لأدب الأطفال، فإن الطفل الآن “مستعير لأكثر من الفترات اللاحقة التي تعتبر”عصورا وسطى”.
بعد انتشار نظريات التحليل النفسي لسيغموند فرويد في أوائل القرن العشرين، اكتسبت الطفولة أهمية جديدة باعتبارها البذرة التكوينية لهوية البالغين. وبالتوازي مع “اكتشاف” مفكري القرن التاسع عشر للجذور الوطنية المتميزة في الفولكلور والأساطير في العصور الوسطى المبكرة والغامضة عبر شمال أوروبا، كان لهذا المفهوم تأثيرات هائلة. في مجموعة مقالاته “الإيمان بالزيف” (1986)، ادعى الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو أن “النظر إلى العصور الوسطى يعني النظر إلى طفولتنا”، وهو تقييم يفسر سبب تشبع عوالم القرون الوسطى بالسحر المرتبط بالطفولة الرومانسية التي أصبحت مناسبة، خصوصا، للشباب في أوروبا الغربية والمستعمرات السابقة.
أدب الأطفال والمفهوم الحديث للطفولة، العائد تاريخهما لمنتصف القرن الثامن عشر فقط، امتلكا ضمنيا مفهوما برجوازيا، وتحددا بالعرق الأبيض، وامتلكا هرمية اجتماعية، ما يجعل ثقافة الأطفال بشكل خاص أرضا خصبة لعودة الحنين إلى الماضي الساحر الملون بالأبيض الذي يمكث طويلا. في الأثناء، يشير ليرر إلى أن “أشكال أدب الأطفال ما قبل الحداثة مميزة” ؛ يستشهد بـ”الحكاية التشبيهية والخرافة الأخلاقية والرومانسية والرمزية” كأدوات سردية سيطرت على أدب العصور الوسطى ولكنها أفسحت المجال لـ”الواقعية والتاريخ والنقد الاجتماعي والعمق النفسي” المرتبط بالأدب للبالغين بعد صعود الحداثة. هذه الأشكال لم تختف، كما يقول تولكين “تم أخذها إلى “الحضانة “عندما أصبحت غير عصرية، لكنها ظلت قيمة، كالعادة، لجمهور الأطفال والبالغين.
أظهرت الشعبية الواسعة التي نالها تولكين ولويس وخيالهما عن القرون الوسطى مدى تقبل ثقافة الأطفال والبوب في القرن العشرين للكتابة. بهذه الطريقة، كان تولكين ولويس قادرين على الحفاظ على مساحة أدبية مخصصة للعصور الوسطى السحرية التي كانا يقدرانها كثيرا، حتى لو لم يتم التقاطها في البرج العاجي أو الخيال الأدبي للبالغين كما أملا. يبدو أن منهج أكسفورد للغة الإنجليزية عمل بشكل أكثر فاعلية، في هذا الصدد، كأرضية تدريب لكتاب خيال أطفال المستقبل الذين حملوا مهمة تولكين ولويس إلى الأمام بطرق متعددة. عمليا، أتقن جميع مؤلفي مدرسة أكسفورد الأربعة من الجيل الثاني الدور الذي لعبه تعليمهم الجامعي المتأثر بالخيال في حياتهم المهنية: في حوارية لها العام 1997، بينت جونز أن أدب العصور الوسطى الذي قرأته في أكسفورد “ألهم” كتاباتها، خصوصا “الطريقة التي تعامل بها كتاب العصور الوسطى مع الروايات. كانوا مختلفين جدا، وهو أمر مذهل، وبرعوا فيه جميعهم”.
تظهر روايات جونز العديدة، التي تشمل سلسلة “كريستومانكي” (1977-2006) ورباعية “دالمارك” (1975-93) وسلسلة “ديركهولم” (1998-2000)، كيف تلاعبت بالقصص القديمة، ووضعتها في سياقات جديدة لكشف حكمة العصر الحديث. مثلا، “قلعة هاول المتحركة” (1986)، تعتمد على تقليد “السيدة البغيضة” للتحول السحري – الذي تم التعبير عنه بشكل أكثر شهرة في “حكاية زوجة باث” لجيفري تشوسر – للنظر في كيفية تأثير الجمال والعمر على حرية المرأة ومقدرتها على القيام بعمل بطولي. وجدت جونز أن أدب الأطفال هو القالب المناسب لهذا المشروع، وتبين أن “الأطفال، بطبيعتهم، وحالتهم، وغريزتهم، يعيشون في بالنسق البطولي أكثر من بقية البشر”. يبدو أن أدب الكبار، خصوصا ما أعقب صعود الحداثة، ليس فيه مساحة لمثل هذه الكتابة.
يتفق بولمان مع جونز، ويدعي في 1996 أنه في الخيال الأدبي للبالغين، “هناك قصص عن المعاناة”، علاوة على “التقنية والأسلوب والمعرفة الأدبية”. وجادل بأن القراء “يحتاجون للفرح والبهجة، والوعد بالارتباط بشيء يتجاوز أنفسنا”، وربما يكون “أدب الأطفال هو الميدان الأخير المتبقي لهذا المشروع”. قناعة بولمان تردد صدى ادعاء لويس في “جزيرة الكنز”، على الرغم من كتابه “أشياؤه الغامضة”، الثلاثية التي أطلقت شهرته، وتتعارض مع العديد من القيم التي اعتز بها تولكين ولويس.
جزء من القطيعة مع أسلاف بولمان، يمكن رؤيته في “أشياؤه الغامضة” (1995-2000)، وثلاثية “كتاب الغبار” (2017-19)، باعتماده الأدب الحديث المبكر، وليس العصور الوسطى، مصادر أساسية للإلهام؛ “الفردوس المفقود” لجون ملتون، هو أصل بناء الثلاثية، بينما يحوم كتاب “أرض الجن” لإدموند سبينسر حول الجزء الأول لـ”كتاب الغبار”. بولمان أطّر نفسه كشخصية “شيطانية” من كتاب ميلتون فيما يتعلق بالخيال السائد بشكل عام وكتب “نارنيا” للويس خصوصا، لقلب المعايير، من الاعتماد على القرون الوسطى وامتيازات شخصيات الفتيان إلى تبجيل المشاعر المسيحية. رغم أنه ليس من القرون الوسطى، إلا أن “الفردوس المفقود” و”أرض الجن” ظهرا بشكل مركزي في منهج إكسفورد الإنجليزي. ورغم أن بولمان يستخدمهما في خيال يتعارض مع الطبيعة المحافظة لتولكين ولويس، إلا أن جدية مدرسة أكسفورد حول السحر والإيمان بالحكمة دائمة الخضرة للأدب الإنجليزي المبكر ما تزال موجودة في كتبه. وكذلك، أيضا، مركزية الأنجلو التي ساعدت بتحويل مغامرات الشباب الأبيض في العوالم السحرية إلى “سندويتشة” عالمية لثقافة الأطفال في القرن العشرين.
يستمر إرث مدرسة أكسفورد في القرن الحادي والعشرين بقوة حقيقية. تم عرضه بافتتاح دورة الألعاب الأولمبية بلندن 2012، وبدأ بقصة وسيطية أصيلة، كما خصص قسما مركزيا من العرض لسحر أدب الأطفال البريطاني. هذا القسم، الذي ظهرت فيه الكاتبة جيه كيه رولينغ تقرأ من “بيتر بان” لجيمس ماثيو باري، تتوجه بمعركة بين فولدمورت المنفوخ من سلسلة “هاري بوتر” وأسطول من ماري بوبينز الطائرة من روايات باميلا ليندون ترافيرز: حرب سحرية على سلامة ورفاهية الأطفال المرتدين للبيجامات. العرض استخدم السحر والقرون الوسطى والطفولة بكثرة- وهي العناصر نفسها التي جمعها تولكين ولويس لمقاومة الحداثة – للمطالبة بالخلود للسحر، والأهمية الدولية والمستقبل المثير لبريطانيا.
من الملاحظ، أن حفل الافتتاح هذا يترك الإمبراطورية خارج التاريخ المختصر لبريطانيا العظمى، ويستبدل هذا الإرث العنيف بمخرجات أكثر اعتدالا مثل خيال الأطفال وموسيقا البوب البريطانية وشبكة الويب العالمية. لكن الرائحة النتنة للإمبراطورية ما تزال موجودة في الكثير من فانتازيا القرون الوسطى. وما يزال من الممكن تمييز غيابها الكبير في رؤية العرض الأولمبي لقصة الأمة. ليس من قبيل المصادفة أن الخيال على غرار مدرسة أكسفورد – الذي شكله رجلان ولدا في بيئتين استعماريتين (تولكين في جنوب إفريقيا، ولويس في أيرلندا) واختارا العيش في إنجلترا كبالغين – ترسخ متزامنا مع اقتراب نهاية الإمبراطورية البريطانية. بريطانيا واجهت حديثا تقليصا لدورها على المستوى العالمي. تكشف هذه الأعمال من العصور الوسطى السحرية قوة اللغة الإنجليزية الشابة، المليئة بإمكانات قهر الكرة الأرضية. الإعداد الخيالي السابق، يسمح لمعظم الخيال بتجنب ذكر التاريخ المرتبط باستعمار المستوطنين وبالعبودية عبر الأطلسي. لكن هذا النوع يعزز بانتظام أفكار التفوق العرقي والأخلاقي للبيض: نحن نرى هذا في هوس تولكين بالأجناس السحرية في “سيد الخواتم” واستبعاد “هارادريم” البشري ذي البشرة الداكنة والمولود في الجنوب كشرير “نصف خرافي”، تماما كما في توصيفات لويس الاستشراقية لشعب كالورمين في “ملفات نارنيا”.وحتى في السياقات العنصرية الأقل وضوحا، غالبا ما يحتفل الخيال بالأنشطة الاستعمارية وكره الأجانب كأعمال بطولية، و”استكشاف” أراضي غيرنا بالخارج والمطالبة بها، وطرد أو إبادة الأجناس غير المرغوبة في الداخل، على اعتبار أنها أجزاء طبيعية من المغامرات البريئة والمبررة.
انتشار الخيال خلال القرن العشرين أسهم في “إمبراطوريات العقل” الجديدة، لإعادة استخدام مصطلح ونستون تشرشل، وإعادة تأكيد الأهمية البريطانية التي انتقلت إلى المجال غير المهدد ولكن المؤثر بعمق بثقافة الأطفال. حفل أولمبياد 2012 يقترح التأثيرات الدائمة لهذه الخطوة؛ فيما ظل الاستعمار فصلا غير مذكور، يمكن أن يعتمد العرض على جماهير التلفزيون العالمية للانضمام إلى الاحتفال بهزيمة ساحر “حي ميت” بناء على استثماراتهم الخاصة بعالم القلاع البريطانية، والمناظر الطبيعية، ومدارس النخبة الداخلية، والمخلوقات السحرية، والطفولة المثالية.
المركزية الإنجليزية وبياض الأدب الخيالي، اكتسبا اهتماما شعبيا خلال السنوات الماضية، ويرجع ذلك جزئيا إلى النجاح التجاري لهذا النوع، وأيضا بفضل الأعمال النقدية الأساسية مثل “الخيال الأسود” لإبوني إليزابيث توماس (2019) و”العرق والأدب الخيالي الشعبي” لهيلين يونغ ( 2016). وبينما تم تجاهل شعبية “سيد الخواتم” وغيره من فانتازيا القرون الوسطى على مواقع الويب الخاصة بالتفوق الأبيض لسنوات، فإن استخدام رموز العصور الوسطى في احتجاجات “اليمين البديل” دفع العصور الوسطى الحديثة إلى الصدارة، وجعل الانتقادات التي أثارها المعجبون والمؤلفون والمختصون تبدو أكثر إلحاحا. الناشرون، في الأثناء، بدأوا بالترويج لمزيد من الخيال المستوحى من التاريخ والثقافات خارج أوروبا الشمالية – مدفوعين بوعد زيادة الحصة السوقية لأن الخيال “المتنوع” يثبت أنه مربح في النهاية. اليوم، تبدو دراسات الخيال غير مكتملة على نحو كبير ما لم تتناول جمالية ثقافية وفلسفة العلوم وفلسفة التاريخ التي تستكشف تطور التقاطع بين ثقافة الشتات الأفريقي مع التكنولوجيا Afrofuturism، ومستقبل السكان الأصليين وأسلافهم، بالإضافة إلى التدخلات الأخرى في الخيال التأملي الذي ينفصل عن المعايير والتسلسلات الهرمية الأوروبية.
مثل هذه التحولات في الاهتمام طال انتظارها. ومع ذلك، في الوقت الذي يقومون فيه بانحرافات هائلة عن أسس هذا النوع، فإن قدرا كبيرا من خيال القرن الحادي والعشرين يحيي ويعزز مبادئ أساسية لمدرسة أكسفورد. مؤلفون مثل صلاح الدين أحمد، شيري ديمالين، زيتا إليوت، إن كيه جيميسين، نيدي أوكورافور، دانيال خوسيه أولدير، صوفيا ساماتار وغيرهم، ينتقدون بقوة الاستبعاد الطويل للأصوات غير البيضاء والتراث العرقي المتنوع في الخيال، ويرفضون نمذجة أعمالهم الخاصة وفقا لروايات العصور الوسطى الإنجليزية، كما يرفضون وضع أعمالهم في بلد كبريطانيا. ومع ذلك، فكتاباتهم تتفق مع رسالة مدرسة أكسفورد في أن كيفية تصوير الماضي للشباب أمر مهم للغاية لتقديم التجربة، وأن بإمكاننا العثور على تلك المعرفة العميقة التي تغير العالم في الكتابة الشعبية التي تستخدم السحر لاستكشاف الامتدادات الخارجية للخيال. بهذا المعنى، فإن سعي تولكين ولويس لتغيير العالم من خلال إعادة تقديم الحكايات القديمة نجح بشكل مذهل، وتتم الآن مراجعته، بمقياس نجاح مدهش، بالقدر نفسه، إلى رؤى بديلة للخيال تستمر في الانتشار والتطور وإعادة السحر إلى الحياة للعالم.
* ماريا ساشيكو سيسير أستاذة الأدب، ومديرة مركز العلوم الإنسانية التجريبية في كلية بارد في ولاية نيويورك. والمادة مترجمة من مجلة https://aeon.co
المصدر: الغد الأردنية