عبد الباسط حمودة
دخل عام وغادرَنا آخر ومازالت القضايا العالقة عربياً على حالها خاصة ما يتعلق بالتنافس الدولي على منطقتنا وعقابيل التلويث الدولي بجائحة كورونا ومتحوراتها التي لما تنتهي بعد، ووجود المتحور الجديد «أوميكرون» الذي أعاد إثارة الفزع بعد ظهوره.
لقد أقحمت الكورونا نفسها، أو تم إقحامها في وسائل الإنتاج، فكانت وبال على معظم الناس وفرصة للكارتلات وللأقلية المالية، وهناك مساعدات مقابل ذلك وطبع أوراق مالية، بنكنوت بأعداد كبيرة مما يزيد التضخم، ووضع قيود على حسابات الطبقات الوسطى والدنيا؛ أما أموال الطبقة العليا (أقل من 1% من الناس) في كل أنحاء العالم فهي حرة، وحريتها ممنوعة على الطبقات الدنيا.
فضائح كبيرة في شركات الأدوية واللقاحات، منافسات تشتد ومؤامرات تكثر، لنكتشف أن اللقاحات لا تُصنع بمعظمها في بلدان المنشأ فمعظم مصانعها في بلدان العالم الذي كان يُسمى ثالثاً، للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة؛ وزبائن لقاح الكورونا، وبعدها دواء الكورونا حين يوجد، هم كل البشرية، والهلع يضطر معظمهم لاستهلاك اللقاح، وبضعة شركات في العالم تنتجه وطبيعي أن تنشأ منافسة قومية بين بلدان الشركات التي تملك (ليس بالضرورة تنتج) اللقاح، طبيعي أيضاً أن تشكّل كارتيلاً يضاهي الكارتيلات الأخرى مثل شركات النفط، وربما كانت شركات الأدوية أقوى؛ فيبدو أننا سنستهلك اللقاح لعدة مرات. ولسنوات، وهذا يعطي الشركات قدرة للهيمنة على حكوماتها وعلى البشرية، وبالطبع بنّية وتدرج الأسعار غير معروفة، والفرق بين الكلفة والسعر هو أرباح الشركات وهذه حتماً ستكون كبيرة.
وجميع الدول تركز بدايةً على التعاطي مع متحورات كورونا، فالرئيس الروسي بوتين في مؤتمره السنوي (23 كانون الأول/ ديسمبر 2021) اعتمد نفس المنهجية التي اعتمدها بمؤتمره في العام 2020، فركّز على جائحة كورونا قبل أن يستعرض المشهدين الروسي والدولي، لكن المشهد الأوكراني كان الأكثر حضوراً في أسئلة الصحافيين وفي أجوبته بوصفه الملف الأكثر «حرارة» بين روسيا وأميركا، هذا المؤتمر للرئيس الروسي يأتي في لحظة توتر بين روسيا والغرب لا مثيل لها منذ انهيار الإتحاد السوفياتي قبل عقدين من الزمن، وعنوان التوتر هو الملف الأوكراني “جوهر الأزمة”، كما قال بوتين، وهو عدم التزام الغرب باتفاقياتٍ سابقة، وأن حلف شمال الأطلسي يشرع بالتوسع شرقاً، والغرب قام بالتوسع تدريجياً وهي خطوات أطلسية متصاعدة في الحديقة الخلفية لروسيا وتم بموجبها ضم دول (في أوروبا الشرقية) كانت عضوة سابقاً في حلف وارسو إلى حلف الناتو، وهذا الغرب الآن، يحاول المس بالأمن القومي الروسي ويقتربون من «عتبة بيتنا»- على حد وصفه- أي من حدود روسيا، وليست الأخيرة من تقطع آلاف الكيلومترات لتهديد الأمن القومي الأميركي، كان بوتين واضحاً: “المطلوب الحصول على ضمانات سريعة وفورية من الأميركيين وليس العكس، فمن عرقل تنفيذ اتفاق مينسك هو الرئيس الأوكراني الحالي ‘فولوديمير زيلينسكي’ كما قال بوتين”؛ لكن ما هي قصة اتفاق مينسك؟
خلال هجومها العسكري في 2014- 2015، حقّقت روسيا نصراً في أوكرانيا، فرضت اتفاقية لوقف إطلاق النار سُميت “بروتوكول مينسك” نسبة إلى المدينة التي تم فيها التفاوض، عملياً كان الإتفاق لمصلحة روسيا، الآن، يريد ‘زيلينسكي’ تغييره، كان بوتين واضحاً في تحذيراته: هناك انطباع بأن التحضيرات جارية لعملية عسكرية أوكرانية جديدة في دونباس، الإقليم الذي يمكن أن تكون مآلاته شبيهة بشبه جزيرة القرم، عندما أجري استفتاء شعبي، فكانت الدبابات الروسية أسرع نتيجة منه، ما أدى إلى عودة هذه المنطقة إلى الحضن الروسي.
ألمح بوتين إلى للرد الإيجابي للأميركيين على المبادرة الروسية بالعودة إلى الاتفاقيات السابقة، أي الالتزام بعدم التوسع شرقاً سواء بنشر الصواريخ أو بضم دول جديدة مثل أوكرانيا للناتو، وهذا الأمر سيختبره المفاوضون الروس في أولى جولات التفاوض مع الأميركيين مطلع 2022 في جنيف، وسيكون الملف الأوكراني في صلب جدول الأعمال بوصفه نقطة التماس والتوتر الأبرز في العلاقات الروسية الأميركية حالياً؛ إن هذه المسألة يقاربها الأميركيون بشكل معقد، ربطاً بأولوياتهم الاستراتيجية الدولية، ولا سيما التفرغ لـ”الملف الصيني”، مع ما يقتضيه ذلك من تحييد لموسكو، الذي يبدو أنه سيكون صعب التحقق، بسبب تبدل المعطيات التي تحكم النظام الدولي حالياً؛ يُضاف إليها استكمال خط أنابيب الغاز (نورد ستريم 2) من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق فيمنح روسيا سلاحاً اقتصادياً في الاشتباك الروسي- الأوكراني، الذي سيسمح لخط الأنابيب بإرسال الغاز الروسي إلى أوروبا دون المرور عبر أوكرانيا، ما يعني أن موسكو يمكن أن تضغط على ‘كييف’ دون المخاطرة بقطعها طريق إمداد الغاز رداً على ذلك؛ فهل تكون المفاوضات أم الحرب؟
إذا تمكن بوتين من تحقيق أهدافه بشكل سلمي فلن يكون مضطراً لتبديد رصاصة واحدة، ويعتقد أنها اللحظة الدولية المواتية روسياً، ولا سيما في ضوء قرار الإنسحاب الأميركي من أفغانستان، وأن ضعف أوكرانيا هو من ضعف الناتو وأميركا. والعكس صحيح، ولكن الزمن الحالي قد لا يكون زمن قوة أميركا لا في داخلها المفتوح على تناقضات شتى ولا في العالم الذي ودّع زمن الأحادية القطبية!
ولا نعرف كيف ستتطوّر مفاوضات ڤيينا بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي زائد المانيا، وبين إيران في شأن الاتفاق النووي، والتي بدت مُعرّقلة وبعيدة من طموحات من أرادوا إتمامها قبل نهاية 2021، وتحوّلت الدول الأوروبية -ألمانيا وفرنسا وبريطانيا- من سائقٍ للعربة يَتمتّع بثقة الطرفين الأساسيين، الأميركي والإيراني، إلى جالسٍ في مقعد القيادة تنهال عليه الاتهامات بالضياع- وبالذات من إيران وروسيا- يبحث عن البوصلة وسط حملة تخوين وتخويف وابتزاز، والصين تبدو أقل انخراطاً وسط انشغالها بحفر طريقها لمنطقة الخليج والشرق العربيين بتمتين علاقاتها المتعدّدة مع دول الخليج العربي من دون أن تخسر حليفها الإيراني الذي وقّعت معه معاهدة أمنية واقتصادية لربعِ قرنٍ آتٍ.
وإدارة بايدن مُحرَجَة وقلقة ومُبعثَرة بين إصرارها على إبرام الصفقة مع إيران وبين وقوعها في مأزق وضعتها فيه طهران بإصرارها على شروط تعجيزية أبرزها الإصرار على رفع العقوبات دفعة واحدة ورفض آليات مراقبة إضافية لبرنامجها النووي، فكانت مبادرتها الإنقاذية مع إسرائيل بمثابة «إيران غيت ثانية» ريثما يتم التوافق!
في هذه الأثناء، تتحرك الدول الخليج العربي لحماية ظهرها عبر شبكة علاقات نوعية اقتصادية وأمنية واستراتيجية، عنوانها التعدّدية في الشراكات الدولية، وتوطيد الاتفاقات الأمنية بين دول مجلس التعاون الخليجي، ومواجهة إيران سلميّاً من خلال توصية إسرائيلية بذلك على خلفية زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي ‘جيك سوليفان’ لإسرائيل واستئناف مفاوضات ڤيينا حول الاتفاق النووي ، وتبني المجلس مواقف براغماتية من الأزمات الإقليمية كتلك التي في اليمن والعراق وسورية ولبنان ومطالبته لإيران بالكف عن “تغذية النزاعات الطائفية والمذهبية” و”إيقاف دعم وتمويل وتسليح الميليشيات الطائفية والتنظيمات الإرهابية”. إنه شكل الحزم الخليجي الجديد بعد كل الشقشقات اللفظية لمسؤوليه جميعاً!
المصدر: اشراق