مالك داغستاني
يتداول العديدون عن الشاعر والكاتب الإنجليزي صموئيل جونسون الاقتباس الشهير بأن “الوطنية هي الملاذ الأخير لكل وغد”. وهذا أكثر ما ينطبق على أشخاص نظام الأسد وأعوانهم، وكذا قادة وعناصر حزب الله وكامل حلف (الممانعة والمقاومة) ومعظم العروبيين من مناصري الاستبداد. يمكننا طبعاً عدا الوطنية التي تحدث عنها جونسون إضافة كل القيم والأيديولوجيات والدين أيضاً الذي بدا أن فيه متسعاً لاندساس أي نذل تحت عباءته التي يقدسها عموم الجمهور، ويقبلون من أصحابها الكثير من التزييف. وأنا هنا لست بصدد التعرض لهؤلاء، لكني سأتحدث بما يخص تزييف التاريخ الشخصي لأناس بدوا أنهم انحازوا إلى الضفة الأخرى التي بدت لهم أنها ملاذ أيضاً.
نهايات عام 2007 ستدافع الفرنسية اليهودية “فيرا بلمونت” مخرجة “النجاة مع الذئاب” بمواجهة المشككين بأن قصة الفيلم حقيقية، على النحو التالي: “إنها ذات الحالة بالنسبة للأشخاص الذين ينكرون الهولوكوست. الفيلم قصة حقيقية بالفعل. لكن، بسبب أن كل ما حدث خلال الهولوكوست لا يصدق ويصعب فهمه، فإن الناس يجدون صعوبة في تصديق هذه القصة”. خلال الشهور التالية، بعد انكشاف الحقيقة مطلع عام 2008، ستعتذر بلمونت عبر تصريح لها: “من الصعب للإنسان أن يكون يهودياً، لذلك لم أعتقد للحظة أن شخصاً ما، كان يمكن أن يزيّف ثوبه على هذا النحو. هناك أشياء في القصة بدت لي أنها من فعل الطفولة، كما يحدث في ذاكرتي الشخصية التي تتضمن أشياء حقيقية، وأشياء أنا متأكدة أنني اختلقتها كطفلة دون إدراك”.
كانت ميشا ديفونسيكا قد نشرت عام 1997 قصة حياتها الحقيقية. القصة باختصار أنها طفلة يهودية بلجيكية من ضواحي بروكسل، قام النازيّون باعتقال والديها وسوقهم إلى معسكرات الاعتقال، لتتبنّاها عائلة كاثوليكية لم تكن تعاملها بشكل جيّد. الطفلة ذات السبع سنوات، فكّرت وأعدّت للهرب بهدف البحث عن أبويها، بعد أن علمت من الجدّ في العائلة الجديدة، أن أبويها رُحِّلا إلى ألمانيا القريبة من بلجيكا. ستقضي الطفلة أربع سنوات وهي تسير عبر أوروبا قاطعة أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر. في الغابات التقت قطيعاً من الذئاب سوف يتبناها لتتنقل معه، وتأكل مما يأكله الوحوش من أحشاء الفرائس. ستدخل الغيتو اليهودي في “وارسو”. هناك ستقتل بسكّين جندياً نازيّاً اغتصب فتاة روسية، ثم حاول الاعتداء عليها شخصياً. في رحلتها تلك ستصل ميشا إلى “أوكرايينا”. طبعاً لم تجد أبويها، فتعود إلى بلجيكا عبر فرنسا في نهاية الحرب. تتزوج شاباً يهودياً دون حب، وتنجب منه ابناً. ثم ستتزوج ثانية وتعيش سعيدة بقية حياتها بولاية ماساتشوستس في أميركا.
قبل طباعة الرواية وعنوانها ذات عنوان الفيلم، عرضتها صاحبة دار النشر على مختصين بتاريخ الهولوكوست وبالحياة البرّية للذئاب. كلا الخبيرين أفادا بأن القصة لا يمكن أن تكون حقيقية. فالطفلة تقول إن أبويها رُحِلا عام 1941 بينما في الواقع لم يبدأ ترحيل اليهود إلا في عام 1942، وموضوع تعايش طفلة مع الذئاب لا يستقيم مع السلوك الطبيعي لتلك الحيوانات. مع ذلك، وعلى أمل تحقيق الربح من القصة المدهشة، قامت دار النشر، بعد الاستعانة بكاتبة محترفة، بنشر الرواية. كثيرون شككوا بالرواية بعد صدورها، وجميع هؤلاء تعرضوا لهجوم، خاصة من المجموعات اليهودية، باعتبارهم معادين للساميّة ومشككين بالهولوكوست. بعد خلاف مالي ودعاوى قضائية حول الحقوق المالية بين دار النشر والمؤلفة، أدّت إلى الحكم على صاحبة دار النشر بدفع مبلغ 22.5 مليون دولار للمؤلفة و11 مليون للكاتبة المحترفة، إضافة لاستعادة المؤلفة لحقوق النشر. قبل تنفيذ الحكم، بدأت دار النشر العمل على التحقق من صحة رواية المؤلفة، في محاولة لتفادي الحكم القاسي، مستعينة بخبراء أنساب ومؤرخين للهولوكوست.
بدايات عام 2008 سيتم الكشف أن الرواية مختلقة. ليس ذلك وحسب، بل إن المؤلفة ليست يهودية أصلاً. هذا الكشف تم بعد سنوات من الشهرة والجولات عبر البلدان، والمحاضرات والمقابلات التلفزيونية التي أجرتها ميشا، وهي تشرح للجمهور تفاصيل حكايتها، بينما تسيل الدموع على خديها من التأثر. ترافق كل ذلك مع بيع نسخ الرواية وترجمتها إلى 18 لغة، وتحويلها أخيراً إلى فيلم فرنسي. ببساطة كانت الطفلة بعمر أربع سنوات عندما اعتقل النازيون والديها لانتمائهما إلى مجموعات المقاومة البلجيكية، وكانا مسيحيين من الروم الكاثوليك. الطفلة انتقلت لرعاية جدّيها ثم عمها. الأب المعتقل أدلى تحت الضغط باعترافات للمحققين أدت إلى اعتقال العشرات من رفاقه وتصفيتهم. لم يشفع له هذا التعاون مع النازيين فتم إعدامه. بينما ماتت زوجته في أحد المعسكرات قبل نهاية الحرب. في تلك الأثناء كانت الطفلة تذهب للمدرسة ولم تغادر منازل العائلة قط. بعد انكشاف تعاون والدها “روبرت دي وايل” مع النازيين أصبح يوصف بالخائن، وأصبح لقب الطفلة مونيك دي وايل، وهذا اسمها الحقيقي “ابنة الخائن”، ما كدّر كل حياتها، فاخترعت لنفسها حياة أخرى.
رواية ميشا لم تكن الحالة الوحيدة التي ألقت بظلال الشك على أدب الهولوكوست. كتاب بنيامين ويلكوميرسكي “شظايا: ذكريات طفولة زمن الحرب” الذي ادعى مؤلفه أنها ذكرياته الحقيقية، حين تم ترحيله وهو طفل إلى معسكرات الموت. هذا الكتاب أيضاً تبين أنه قائم على حكاية زائفة. الحقيقة إن ما قادني إلى تخصيص كل هذا الحيّز لحكاية هذه الرواية، هو هاجس الخوف من التزييف. رغم أن له قصب السبق، لنعترف أن التزييف ليس من اختصاص نظام الأسد فقط. واقع حالنا مع التزييف والتلفيق يفيد بأن العديد من حكايانا بل والعديد من تاريخ السير الشخصية لكثيرين لا تخلو منه. فليس مجرمو الأسد ممن لجؤوا إلى أوروبا، وحدهم من يقومون اليوم ببناء حياة، بل وتاريخ جديد زائف لهم، خوفاً من ماضيهم. بل هناك العديد من القصص التي لفقها أشخاص عن ماضيهم، وحتى عن الكثير من حاضرهم في صفوف الثورة، ولم يتجرأ أحد على مواجهتهم، كي لا يرمى بتهمة معاداة الثورة. من تجرأ وفعل، قوبل غالباً بالهجوم واتُهم بأنه مغرض ويهدف للتشكيك، تماماً كمن شككوا ببعض روايات الهولوكوست التي امتطاها كثيرون. مع أن واقع الأمر، لو فكرنا بعقل، فإن الملفقين هم من يسيئون لكامل رواية الثورة.
إن دحض رواية واحدة مما تعرّض له السوريون في العقد الأخير، كفيلٌ بوضع حتى المتلقي المتعاطف في حالةٍ من عدم الثقة، كما أن خطر تصديق كل شيء، مهما بدا يفتقد المنطق، يضعنا عند تهافته، أمام احتمالية خسارة الوثوق بكامل الحقائق التاريخية وبخاصة روايات الضحايا الحقيقيين. وجميعنا يعلم كم عمل نظام الأسد على تخريب رواية الثورة عبر دس روايات قابلة للتقويض. روايات كان العديد منها يصادف هوى لدى جمهور الثورة، والجمهور عادةً قابل لاستمراء أن يُكذَب عليه، عندما يتناسب الكذب مع أهوائه. كان الهدف الأول والأخير للأسد من هذا هو التشكيك بكامل الرواية الحقيقية.
كُثر ممن التحقوا بالثورة، بل وكانوا في الصفوف الأمامية للمعارضة كان لهم ماضٍ انتهازي ومشين معروف وواضح. هؤلاء امتلكوا قابلية التزييف والمزاودة حتى على الثورة وأبنائها. بعض هؤلاء عاد بعد فترة إلى أحضان النظام، ومنهم من ما زال إلى اليوم يمارس التزييف. والعارفون يتأملون بحزن، على أمل أنه حتماً في يومٍ ما، سيتم إنصاف التاريخ وتنظيفه من ادعاءاتهم، كما جرى لميشا التي اعترفت بنفسها أخيراً بالتزييف، بل واعتذرت عنه، فهي مجرد إنسانة معتلّة نفسياً. اعتلال سببته طفولتها القاسية. لست هنا بصدد التعريض بأي أحد. مع ذلك، ومع الكثير من اللباقة، يجب القول بوضوح إنه كان في صفوف الثورة والمعارضة، وما زال، من المزيِفين الذين يستحقون أن يحملوا بجدارة عالية، حتى أكثر من مونيك دي وايل، ألقاباً تشبه لقبها “ابنة الخائن”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا