محمود الوهب
(1)
الدين نفحة روحية تمنح الإنسان الفرد جرعات قيمية من أخلاق تفترض تحسين التعامل مع الإنسان الآخر. يقول الله في كتابه القويم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات آية 13) أعتقد أن الآية واضحة، لا لبس فيها، وقد تضمنت دلالات عميقة. فهي تخاطب الناس أي: بني البشر كافة، والمسلمون من ضمنهم، وليسوا استثناء. وأنَّ الله جعل خلقه على تعدد وتنوع، وبالتالي، على تباين في الآراء والمعتقدات لغاية سامية هي التعارف، والتآلف، وتبادل الخبرات والمعارف. وذلك وسيلة لتحقيق غاية كلية هي إعمار الأرض التي نُذِرَ الإنسانُ لإتمامها. وأما التقى في الآية فلا يعني تأدية الطقوس الدينية المعروفة فحسب بل إنه امتلاء روح الإنسان بالإيمان الذي ينطوي على محبة الناس! وهكذا يستوي عمران الأرض ويستقيم.
(2)
منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة، نشبت بوادر خلاف – وجثمان النبي لم يوار تربته – أما محتوى الخلاف فسياسي لا ديني، وتركز على استحقاق الخلافة، بين المهاجرين والأنصار، وبين القرب والبعد من النبي. رغم أنَّ نويَّات الدولة لمَّا تتبلور، زمن النبوة هو زمن تكوُّن الدين. أما في عصر الخلفاء الراشدين وخاصة لدى أبي بكر وعمر فقد امتزج الدين بالدولة في شخص الخليفة. أما بعدهما فقد احتدم الصراع بين بيتي قريش: الأموي والهاشمي، فكانت الخلافة للبيت الأموي، وكان المسجد والقضاء والشره أو الفتوى لرجال الدين. ويمكن القول: إن فصلاً أولياً قد بدأ بين الدين والسياسة.
الإسلام السياسي المعاصر هو زعم بإعادة الدين إلى السياسة وهو محاولة يائسة لاستغلال جمهور المسلمين لغايات السياسة، لكنها، وبعد مرور نحو مئة عام على الولادة لم تعط نتائج إيجابية. وما نراه في تركيا غير ما يطرحه الإسلام السياسي في البلاد العربية. فتركيا دولة عَلمانية، والدين فيها مفصول عن الدولة، وحزب العدالة والتنمية لا يستمد سياسته من الدين بل من القوانين. لكن الدولة سمحت للمتدينين بممارسة طقوسهم بحرية إتماماً لمبدأ العَلمانية الحقة.
(3)
إن جوهر إثارة الجدل حول إشكالية الدين والسياسة، يأتي من اختلاط الجانب الديني/الروحي، وقدسيته بالآخر السياسي الذي يريد استغلال وسطه الشعبي موهماً إياه بأنه يعمل على إقامة شرع الله المقدَّس بين الناس! والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل العصر الذي نعيشه هو حقاً عصر صراع أديان وبناء إمبراطوريات؟! أقصد هل مازال العالم الذي يعيش عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والروبوتات وتقنية النانو والأمن السيبراني على صراعاته القديمة؟! أم إنه صراع على الزبائن والعقول والخبرات ومواطن النفوذ، وعلى الطاقة والأسواق والمواد الخام! وهو عند البلاد الفقيرة يتركز حول التنمية والسعي لأجل إيجاد علاقات بين الدول والشعوب أكثر عدالة وإنسانية، وسعياً لردم الهوة فيما بينها. إذ ما تزال تتسع أكثر فأكثر، بين الدول الغنية والفقيرة، المتقدمة والمخلَّفة! وإذا كان صراع أديان فعلاً، فلماذا إذاً الصراع بين المسلمين أنفسهم، ولماذا التخلف في بلادهم فحسب؟!
(4)
يعبِّر المنور الحلبي السوري عبد الرحمن الكواكبي صاحب طبائع الاستبداد عن علاقة الدين بالسياسي فيقول:
“الدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع”. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن جوهر الدين إنما يكمن في تلك العلاقة الروحية بين الإنسان الفرد وخالقه. وفي قول الكواكبي هذا، فصل واضح بين الدين والدولة، وشبيه به ما قاله مهاتير محمد (رحمه الله): “عندما أردنا الصلاة توجهنا صوب مكة، وعندما أردنا بناء الدولة توجهنا صوب اليابان..” إذاً لندع الدين لطهر المؤمنين ونقائهم، ولنترك السياسة لتدافع عن مصالح المجتمع التي تتلخص بمفردات عيشه، وبحريته وكرامته، لندعها لقادتها الذين يتقنون فن المراوغة والمخادعة وتبديل السبل والغايات بين عشية وضحاها، وكذلك استبدال العداوات بالصداقات أو العكس ولمحاسبتهم عند الفشل لا محاسبة الدين.
(5)
إن ثمة فكرة في غاية الأهمية، هي سؤال جوابه معلَّق. وهو: من المخوَّل اليوم بتفسير الدين، وبتحديد أطره وفرضه على الجميع، أهو “السياسي المسلم” أم “عالم الدين الفقيه”؟ إذا كان الأزهر ذاته لم يحسم أمره تجاه داعش مثلاً، وهي التي تكفّر غالبية المسلمين، ومثلها الكثير من حركات الإسلام السياسي التي تزعم أنها خير من يمثل الإسلام. والكل يعيش الماضي وهماً، بينما هم في الواقع عبيد للسلعة التي يصنعها الغرب “الكافر” ولا حياة لأحد بدونها.
المصدر: اشراق