تتمتع سورية بموقع جيوسياسي حساس، ما جعلها ميداناً للصراعات الدولية والإقليمية، وحقلاً لتدريب الجيوش واختبار أسلحتها، ومعرضاً ميدانياً دولياً لتسويقها.
روسيا السوفيتية التي أسقطها غورباتشوف بسياسة إعادة البناء (البيروسترويكا) جاء بعده بوتين ليعيدها، وفق حلم أجداده القياصرة، قوة تنافس للسيطرة على العالم، مستنهضاً ستالين من رُقاده مع حصوله على فرصة ذهبية أرادها من أجل الوصول إلى البحر المتوسط وإقامة أول قاعدة عسكرية في المياه الدافئة، وهو ما تحقق مع قاعدتي طرطوس وحميميم، ومع إضافة قاعدة مطار القامشلي لها في سوريا، تكون القوات الروسية قد أحاطت بحلف الناتو، وجعلت تركيا العضو التي يصنف جيشها بالأكثر عدداً في الحلف، بين فكي كماشة.
مكاسب رخيصة حققتها روسيا وبسهولة في الأراضي وفي المياه السورية، ما يجعل السؤال المطروح: لماذا إذن ستفكر روسيا بالخروج من بلد أعطاها قادته حق التملك الكامل لقواعد جوية وبحرية وبرية، مقابل دعمهم للبقاء في السلطة؟
يروج البعض أن روسيا ليس لها مطامع بالبقاء في سورية، كما سبق وادّعت موسكو الانسحاب بتاريخ 14/3/2016، لكنها لم تسحب أي من قواتها، بل عززتها بعناصر وأسلحة إضافية تتزايد يوماً بعد يوم، كما أنها تبني منشآت جديدة وتعمل على توسيع مدرج مطار حميميم ليكون قادراً على استقبال القاذفات الاستراتيجية Tu22 وواضح أن ذلك بهدف ضرب حلف الناتو في حوض المتوسط انطلاقا من سورية، في حال حصول أي مواجهة بين الطرفين.
كما كان لافتاً قيام روسيا بدوريات جوية على الحدود مع الجولان المحتل، بحجة تدريب طيارين سوريين، لكن الحقيقة أن هذا جزء من برنامج تدريبي لمواجهة القوة الضاربة لحلف الناتو بالمتوسط (نبتون سترايك٢٢) وهي تريد أن تجعل من الطيارين السوريين سهاماً لها في أي مواجهة ستحدث.
كثيرة هي الأسباب التي تزيد من قناعتنا أن دخول روسيا إلى سورية جاء بهدف الاحتلال طويل الأمد، ومنها أن عملها على تحويل مطار حيميم وقاعدة “اسطاموا” وما حولها لمستودعات تخزين مؤقتة، يتم الشحن منها إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية عبر جسور جوية أساسها طائرات النقل ايل ٧٦ وأنتينوف 225 ووجهتها مالي وأفريقيا الوسطى وموزمبيق، يشير إلى أهمية القاعدة لدى الروس، ورغبتهم بجعلها قاعدة إمداد وسيطة لا يمكن التفريط بها بسهولة بعد أن قدمت إليهم على طبق من ذهب.
كما أن التدريبات القتالية التي تتم في قاعدة طرطوس وجعلها قاعدة انطلاق وتمرين لأسطول البحر الأسود ومعه اللواء 810 مشاة بحري، وتحويل المياه الإقليمية السورية إلى ميدان تدريب ورمي صواريخ منظومة باستون وصواريخ اسكندر، كلها مؤشرات أن الأهداف الروسية تجاوزت المهمة المعلنة لدخولها الأراضي السورية.
وزير الدفاع الروسي الذي اعترف صراحةً أنه تم تجريب أكثر من 320 نوعاً من الأسلحة والذخائر في سورية والتي فتكت بالسوريين ودمرت منازلهم، تعكس سياسة عدوانية ورغبة بجعلها ميدان تجارب للأسلحة الروسية.
وما زالت روسيا تطور أنواع الأسلحة ذات الدقة العالية من قذائف كراسنبول وتجربها على المشافي والنقاط الطبية ومنها مشفى الأتارب، والطائرة ازلا 3، وكذلك صواريخ س ـ 105 التي تجربها من خلال طائرة كاموف كا٥٢ “التمساح”.
يعتقد البعض أن روسيا وفية لحلفائها. ولكن القضية مصالح استرتيجية لا علاقة لها بالوفاء، فصحيح أنها ساندت الأسد وأنقذته من سقوطه المحتوم، لكنها تفعل ذلك من أجل مصالحها أولاً، وهي تتعمد إذلاله بشكل متكرر لتظهره ورقة بيدها من خلال إدارة الصراعات مع القوى الدولية.
وهذا ينسحب على (الحليف الإيراني) إذ أن المصلحة الروسية اقتضت استخدام الحرس الثوري وميليشياته لتقليل الخسائر الروسية إلى أدنى حد ممكن، وإلا فما معنى نشرهم أنظمة دفاع جوي (S400—S300) ومنظومة التشويش كراسوخا ٤ التي لم تتصدًّ للقصف الإسرائيلي الذي استهدف الحرس الثوري الإيراني، ومبرر روسيا أن تشغيل المنظومة يكشف الأمواج الكهرطيسية لها من قبل الناتو عبر الطائرة الأمريكية RC135W).
لم يكن لروسيا الكثير من الأهداف الاقتصادية في سورية، ولكن كلفة الحرب التي شنتها على الشعب السوري لابد أن تصرف من جيوب السوريين أنفسهم ومن ثرواتهم، لذلك يركزون أنظارهم عل النفط والغاز والآثار كما سيطروا على ميناء طرطوس وهم في طريق سيطرتهم على ميناء اللاذقية، بالإضافة لقطاعات حيوية أخرى تطمح في منح شركاتها امتيازات استثمارية، ناهيك طبعاً عن قطع الطريق على أي مشاريع لإمداد أوربا بالغاز القطري عن طريق تركيا مروراً بسوريا.
إن المثل الأوربي القائل: “الروسي إذا دخل بيتك فلن يخرج منه” لم يكن مصادفة، بل عن فهم عميق لتاريخ السياسة الروسية عبر قرون مضت. إن الأطماع الروسية البوتينية لا تتوقف عند سورية، بل تحاول أن تجد لها قواعد أخرى على ضفاف المتوسط شمال القارة الأفريقية، مستغلة الظروف التي تمر بها بلدان الربيع العربي، والاهتزازات المحتملة لبلدان أخرى، وذلك بهدف تطويق حلف الناتو في المتوسط والتخلص من عقدة خنق روسيا بمضيق البوسفور، ومن هذا المنطلق كان توجهها إلى ليبيا.
كما لا يخفي الروس مطامعهم في استعادة السيطرة على المضائق البحرية، كباب المندب بعد خسارتهم لقواعدهم في اليمن، ويتطلعون لبناء قاعدة بحرية في بور سودان، وهم ساعين أيضا لتعزيز وجودهم أكثر في الجزائر وربما لقاعدة بحرية تؤمن حركة اسطولهم البحري عند عبوره جبل طارق خلال الأزمات والحروب.
إن الرهان على إغراق روسيا في المستنقع السوري سيبقى وهماً في عقول بعض السياسيين الغربيين الذين لا يدركون المكاسب الاستراتيجية التي حققها ويحققها الروس، هي أثمن من أية مكاسب اقتصادية ليست أصلاً في ذهن روسيا التي تذخر بالثروات الباطنية، وهذا الرهان الزمني لن يأت إلا بمزيد من إغراق السوريين في بحر الدماء المتدفقة.
إن الحل السياسي الذي أقرته الأمم المتحدة عبر جينيف وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وخاصة 2254 لن يصل إلى نتيجة ترضي السوريين ولن توقف شلال الدماء، دون إيجاد آلية تجعل من العقوبات والضغوطات مؤثرة على النظام بما في ذلك نزع شرعية وجوده في الأمم المتحدة كنظام مدان بجرائم ضد الإنسانية.
مدعوما من الروس ماض بالحل العسكري ومناوراته السياسية في المحافل الدولية ليست إلا لتمرير الوقت لإرهاق السوريين أكثر ودفعهم للاستسلام.
لقد حان الوقت لتظافر الجهود العربية والغربية وقوى الديمقراطية وان تدفع بالقضية السورية إلى الجمعية العمومية لاستصدار قرار يلزم نظام الأسد على الرحيل بالقوة، ويهيئ لحكم انتقالي تشرف عليه الأمم المتحدة وتهيئ لرحيل جميع القوى الوافدة.
المصدر: المجموعة المهنية الاستشارية