عمار ديوب
كان الاتجاه العام لتطور النظام السوري، اقتصادياً يقود نحو مزيد من العلاقات مع العالم، والانفتاح الاقتصادي والليبرالي، وهذا ما عُبِّر عنه قبل 2011 بمجموعة كبيرة من المراسيم والقوانين، هدفت إلى شطب المراسيم والقوانين السابقة التي كانت الهيمنة فيها للقطاع العام. مشكلة هذا النظام في استبداديته والسيطرة الأمنية، وفي ضعف البنية الاقتصادية، وهناك النهب والفساد، الذي من خلالهما تمّ نقل الثروة من الدولة إلى أبرز شخصيات السلطة، ما فرض ضرورة الانفتاح واللبرلة، وكان الممثل الأساسي لها رامي مخلوف، قبل أن يُجتثّ، وأُتيَ بمن هو أكثر طاعة منه. القضية مع رامي كانت حول حصص النهب، وفي الخضوع الكامل، وهذا باعد بين تلك الشخصيات. مع الثورة، بدا أن النظام مستعدّ لكل أشكال التبعية مقابل البقاء في السلطة. وعلى الرغم من العجلة في الاستنتاج، نقول: إن استمرارية النظام أصبحت، ومنذ 2011، مرتبطة بمصالح إيران وروسيا، ومن دون ذلك لسقط منذ 2012.
يقول هذا التحليل بغياب أيّة رؤية وطنية لدى النظام للمشكلات السورية، وتسليم البلاد بأكملها للخارج، والارتهان الكامل للأخير. حالة السلطة هذه أوجدت صورتها لدى المعارضة، الأخيرة تشبه الأولى في فسادها ونهبها وخضوعها وتبعيتها، وغياب الرؤية الوطنية لمجمل مشكلات سورية، وليست صحيحة السردية التي تقول: لدى المعارضة برامج ممتازة، ولكن الظروف الموضوعية لم تسمح لها بتحقيقها. الأدق عكس ذلك، كانت الظروف الموضوعية تنتظر تلك البرامج، وأكثر من عشر سنوات، ولكن المعارضة لم تمتلك إلّا طبخة بحصٍ.
سيهتم هذا المقال بأوضاع المعارضة وحالة الشعب، حيث هناك مبادراتٌ عديدةٌ من أجل إعادة الحياة “للميت”؛ المعارضة، وهناك الحالة المأساوية التي أصبح عليها الشعب، داخلياً أو في المخيمات، أو في الدول المجاورة لسورية. جديد هذه المبادرات ما رشح للإعلام عن عقد ندوةٍ في الدوحة، تبدأ اليوم السبت، 5 فبراير/ شباط 2022، وتكتمل غدا الأحد. وبغض النظر عن التفاصيل الدقيقة للسيناريو المعدّ لها أو القضايا المُناقشة، أو الدول الداعمة لها، وأسباب ذلك، فالقضية الأهم هي أحوال تلك المعارضة، وما أصبحت عليه، قياساً على الأوضاع العامة للسوريين، مع انشغال هذه القراءة بأوضاع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وهي مناطق تابعة إمّا للأميركيين أو لتركيا أو لهيئة تحرير الشام وبالتعاون الكامل مع تركيا. المناطق الثلاث تعاني، كما مناطق النظام من كل أشكال المظلومية الاقتصادية والاجتماعية، وغياب الحريات. وبالطبع، هناك أكاذيب كثيرة عن حق التعبير أو الاحتجاج في مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومناطق الفصائل مشغولةٌ بنهب الناس والاحتراب فيما بينها، وممارسة التمييز ضد الأكراد في عفرين، بينما تزداد مناطق هيئة تحرير الشام استبداداً وشمولية، وتندُر لديها حالات الاحتجاج المستقلة، ومعتقلاتها تماثل معتقلات النظام؛ إنكاراً لوجود المعتقلين وتعذيباً، وقتلاً فيها. الإفقار يتسع هناك، وتغيب فرص العمل. وتشبه هذه الحالة كثيراً أوضاع مناطق سيطرة النظام. الآن، ماذا فعلت المعارضة في السنوات السابقة لتعزّز وجودها، ولنتجاهل مناطق “قسد”، حيث نأت بنفسها عن المعارضة والثورة، فأين المعارضة في بقية المناطق؟
اتجاه نقدي
يؤكد اتجاه نقدي ضرورة التمييز بين المعارضة والثورة، وبين برامج الأولى والثانية. وضمن هذا الاتجاه، هناك تأكيد جادّ بأن ممارسات المعارضة تدفع إلى القول بضرورة إسقاطها كما النظام، حيث لم تنشغل بالثورة، ومنذ أن شَكلت مؤسساتها في 2011، بل استغلتها من أجل تأمين مصالحها، وانشغلت بكيفية استجلاب التدخل الخارجي والارتهان له، كما النظام، وإذا نجح الأخير بمساعيه “غير الحميدة”، فإن المعارضة فشلت بشكل كامل، وكان التدخل من أجل قضايا وظيفية ومحدّدة، كمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبشكلٍ أدّى إلى تفكيك سورية، وتسييس الانقسامات الأهلية التي ارتفعت حدّتها بعد مواجهة النظام الثورة عسكرياً وتطييفياً، واستجلاب إيران ومليشياتها. الممارسات السابقة عزّزت الأسلمة والعسكرة والفوضى في أعمال الثورة، وسيطر الخارج على كل أشكال الدعم للمناطق الثائرة، وجرى توظيف الدعم الخارجي من أجل تفكيك وحدة الثورة والشعب السوريين، وتطييفه، والعسكرة الكاملة على الثورة، وصارت الفصائل غبّ الطلب، وبذلك انتهت الثورة الشعبية، وراحت الفصائل تعمل لصالح مموّليها، وتعزّزت الاتجاهات السلفية والجهادية، وأصبحت سُلطاً شمولية.
السؤال بكل بساطة: أين المعارضة، ولماذا كل هذا الفشل، وهل بمقدورها تجاوز الفشل الذي وصلت، وأوصلتنا إليه، وهناك دورها في هزيمة الثورة السلمية منذ 2011.
قضايا أساسية
أولاً، كان الصراع بين النظام والثورة في 2011، ثم دخلت المعارضة على الثورة وسيطرت عليها. كان لدينا طرفان للصراع في سورية. وبالطبع، بدأت إيران وروسيا بدعم النظام. طُرحت حينها مشاريع كثيرة للإبقاء على الثورة سلميةً، ولإصلاح النظام، وجاءت بعض مبادرات يتيمة من النظام ذاته، والتي شطبها هو نفسه فوراً، كمبادرة فاروق الشرع، ولم تستطع المعارضة طي انقساماتها التاريخية، وتجلى ذلك عبر أهم شخصيتين، حسن عبد العظيم ورياض الترك، وساعد التنازع بينهما على تشكيل هيئتين للمعارضة، وصار الانقسام الأخطر في المعارضة، لكل منهما استراتيجيته وبرامجه ومواقفه، ولم تتمكّن المعارضة في يوليو/ تموز 2012 في مؤتمر القاهرة للمعارضة من تجاوزه. وأدّى هذا الانقسام إلى “تطرّف” الجهتين، إحداهما نحو السلمية، وأقصد هيئة التنسيق الوطنية، والثانية، وأقصد المجلس الوطني، نحو العمل من أجل التدخل الخارجي، والعسكرة، والأسلمة، ورهن كل نشاطات المعارضة، والفئات الملحقة بها من الثورة بالخارج. لم تجد هيئة التنسيق سنداً شعبياً، وتعمّق ضعفها مع انتهاج السلطة الخيار الأمني العسكري خيارا وحيدا للتعامل مع الثورة، وخيارات الثورة نحو العسكرة والتطييف والتبعية للخارج. وتعزّزت هذه الوضعية في 2012. وعلى الرغم من الضعف الشديد للنظام، وخروج مدن ومناطق واسعة عن سيطرته، ووجود رغبة شعبية عارمة، وصلابة في النضال، أصرَّ المجلس الوطني السوري على طلب التدخل الخارجي، وفَتحَ المجال واسعاً للأسلمة؛ أي لم ينشغل بقضايا الثورة والعمل على تجاوزها داخلياً. كانت هذه الفكرة كارثيةً بحق الثورة، فقد أدّت إلى دخول الجماعات الجهادية، واستقبال القادة الجهاديين من معتقلات النظام، وعدم تحييدهم نهائياً عن الثورة، كما طالب حينها الكاتب الفلسطيني سلامة كيلة، وسادت أجواء مرحّبة من قوى المجلس الوطني، وفي مقدمتها “الإخوان المسلمين” وحزب الشعب الديمقراطي بالسلفيين والجهاديين؛ لنتذكر الترحيب الحار بجبهة النصرة من جورج صبرا ومعاذ الخطيب وميشيل كيلو، وآخرين، واستثنوا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فقط.
ثانياً، وبعد سيطرة الجهادية والسلفية والإخوان المسلمين على الإغاثة والمال والسلاح، بل وبعض الإعلام، أشاحت الدول الغربية أنظارها عن المسألة السورية أكثر فأكثر، أصبحت قضية مفتوحة لتمرير الوقت، وتفكيك سورية، وإيقاف الروح الثورية العربية في هذا البلد. بمعنى آخر، انتهت الثورة الشعبية، وتهالك النظام، وصار اعتماده الأساسي على المليشيات التي شكلها أو استقدمها من إيران، وكذلك سيطرت الجهادية والسلفية. هنا، أعلنت الدول الغربية، بوضوح، أنه لا انتصار عسكرياً لأحد الطرفين. وفعلاً استمر الأمر كذلك، وسيطر “داعش” القادم من العراق على المدن الشرقية، واجتثت السلفية الجيوش الحرة في الغوطة، وبقية المناطق، وفعلت الجهادية ذلك في إدلب، وفي درعا، صارت الفصائل تابعة للدعم الأميركي. وأصبحت القضية السورية إقليمية ودولية، وغير قابلة للحل، وذهبت سورية نحو التفكّك والتعفن.
ثالثاً، شهدنا تعاظم قوة مسلحي “داعش” ومن ثم قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، ودخول التحالف الدولي لمحاربة “داعش” 2014، وفي 2015، دخلت روسيا، وشكلت فيما بعد تحالفاً مع تركيا وإيران، وهذا أعطى دليلاً جديداً أن لا حلّ عسكرياً، وإن إحدى أهم الدول الداعمة للمعارضة والثورة، تركيا، أصبحت تنتظر حصتها من الكعكة السورية، وليس إسقاط النظام، وانشغلت بمواجهة “الإدارة الذاتية الكردية” وكيفية تهميشها، والإجهاز عليها. السؤال هنا: ماذا بقي من الثورة بعد أن سيطرت “قسد” وهيئة تحرير الشام ودخول تركيا عسكرياً، ونتائج تحالف روسيا مع تركيا وإيران، ولا سيما بعد الاتفاق على تسليم مناطق خفض التصعيد مع أميركا وتركيا؟ ما هي مواقف المعارضة في هذه الأثناء؟ ماذا فعلت لتجدّد روح الثورة؟ لتتخلص من الهيمنة المتزايدة للدول في شأن الثورة وسورية؟ لن نتوسّع بالقول إن النظام باع سورية لروسيا وإيران شريطة بقائه في السلطة، ومنذ 2011. هو إذاً خارج معادلة الاستراتيجية الوطنية لإنقاذ سورية مما جرى لها؛ تبعية للخارج، تفكّك مجتمعي، سياسات عنصرية وجهادية وسلفية، إفقار متصاعد، تدمير للاقتصاد، نزوح الملايين، طائفية متصاعدة، وهكذا.
الفساد في المعارضة
تذهب تحليلات كثيرة إلى أن المعارضة لم تعِِ خطورة ما صارت تتطوّر إليه الأوضاع في سورية، وهناك حديث التخوين بين كتل المعارضة، والأسوأ أن التقارير الصحافية الاستقصائية لم تستطع إجلاء الحقائق الدقيقة عن الخيانات والفساد والتبعية للخارج، وظل الحديث عنها هائماً. وهذا يعني أنه عومل كمواضيعٍ كيدية، من فلان ضد فلان، ومن هذه الجماعة ضد أخرى، بينما تتطلب الحقيقة متابعة دقيقة، وحثيثة، للوصول إليها. ساعد في غياب ذلك عدم تشكيل مؤسّسات قضائية مستقلة، أو مؤسّسات للرقابة، ولمتابعة كل أنشطة المؤسسات الممثلة للمعارضة، ولم نقرأ أية تقارير عن كشوفات مالية، ومصادر المساعدات وآلية التوزيع، ومن استفاد منها.
حديث الفساد كبير في أوساط المعارضة، ولكن المعلومات الدقيقة عنه غير متوفرة. مشكلة كبيرة هذه. والمقصد هنا، كان غياب المؤسسات الرقابية والقضائية عملاً ممنهجاً من القوى المسيطرة على المجلس الوطني، ولاحقاً لدى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وهذا سمح بممارسات وأعمال ونشاطات فوضوية، كانت كارثية على الثورة وعلى المعارضة؛ فلم تتشكّل قيادة مركزية للتمويل أو للإغاثة أو للسلاح أو للإعلام وللنازحين، واستُبعد القضاة والمنشقون العسكريون عن تشكيل مؤسسات لمراقبة أعمال المعارضة والثورة. سيادة هذا الوضع يعني أن القوى السياسية والعسكرية المعارضة أقامت صلاتها الخاصة مع الدول والمنظمات، وفقاً لأولوياتها ولخدمة سياساتها وعبر أفراد محدّدين، وليس عبر مؤسساتها هي أيضاً! وهذا، في أتون الصراع، أدّى إلى غياب الرؤية الوطنية الجامعة، بينما كان تحالف روسيا وإيران والنظام موحداً، وقاد معاركه ضد الفصائل بشكل مركزي، وعلى كامل الجغرافية السورية، وإقليمياً وعالمياً. وبالتالي، كان طبيعياً أن تفشل المناطق الثورية، ويستعيدها النظام وحلفه، وتسيطر الجماعات، المسيطرة حالياً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وهي جميعها تابعة، ولا صلة لها بالثورة، ولا تمانع تسليم أية مناطق تسيطر عليها، شريطة بقائها في سلطاتها، هنا وهناك؛ هذا ما فعلته بشكل خاص هيئة تحرير الشام في إدلب، وكذلك “قسد”، وكذلك الفصائل، وقبل الجميع. هذا ما فعله جيش الإسلام في الغوطة، وقد كان في 2014 قادراً على اجتياح العاصمة، وتوقف عن ذلك بسبب رفض الدول الممولة له ذلك، ومن ورائها الدول الغربية، وتحديداً أميركا.. وتمّ طرده من الغوطة في 2018، ولو رغبنا بالسؤال هنا، وماذا فعل هذا الجيش طوال السنوات الأربع تلك ومنذ تشكله؟ لقد بنى سلطته على مأساة الشعب هناك، وقاتل جبهة النصرة وفيلق الرحمن، وقُتِل في تلك المعارك أكثر من ألف شاب معارض للنظام، وكان الفساد عظيماً وكان الإفقار عظيماً، وضبطَ حدود سلطته بالسلاح، وبذلك أكمل ما كان يفعله النظام من حصارٍ للغوطة من الخارج.
أولوية النقاش
من الخطأ تكفير ندوة الدوحة سلفاً؛ يمكن التحفظ، يمكن المناقشة، الاختلاف، التناقض. الأفضل أن تكون فرصة للنقاش الدقيق في مشكلات المعارضة، ومشكلات سورية، ومشكلات النظام. سوى ذلك، لا ينتج شيئاً، فقط ينشر الكراهية، وروح الانتقام، والتباعد السياسي والمجتمعي. وفي الحصيلة، تضيع الفرصة الثمينة لتحديد المشكلات، والمسؤوليات، بل والعمل من أجل إطاحة قادة المعارضة الحالية، وذلك عبر كشف أزماتها الحقيقية، وضرورة تغيير قيادتها وسياساتها ومواقفها وسواها. وإذا صحّ ما قيل، إن أحد أهداف الندوة هو التخلي عن هدف إسقاط النظام، واستبداله بتغيير النظام، أي عبر الحوار معه، فإن نقاش أوضاع المعارضة السورية، ومهما كان النقاش، هو العمل الوحيد المفيد، للخروج من أزمة المعارضة، وتلمّس البديل الثوري، وليس البقاء في دائرة أزمة البديل. وبالتالي، تُحقّق المعارضة الحالية مشروعها الجديد. وهذا يتجاوز ندوة الدوحة بالتأكيد؛ والكلام عن ذلك سابق لها، وسيكون ضمن ممارسات “الائتلاف الوطني” اللاحقة بالضرورة، وسواء عُقدت الندوة أم لم تعقد. في الأيام السابقة، هناك نقاش كبير في تغيير “الائتلاف” سياساته من الإسقاط إلى التغيير، فالحوار ومن ثم المشاركة “بحكومة وطنية في دمشق”. والآن، يعود السؤال الثوري بامتياز: ما العمل؟ التوسع بتحليل أوضاع المعارضة سيقود إلى تلمس كيفية الخروج من الأزمة الراهنة؛ أزمة المعارضة والبديل عنها.
خلافات المعارضة و”قسد”
إضافة إلى ما حاولت السطور أعلاه التطرّق إليه، هناك قطيعة كاملة بين “قسد” و”الائتلاف الوطني”. وإذا كانت “قسد” أَخرجت نفسها من “الائتلاف” ومن “هيئة التنسيق”، فإنها أصبحت سلطة حقيقية، وبدعمٍ أميركي كامل، ولم يعد لها علاقة من قريب أو بعيد بالمعارضة، ولكنها بالتأكيد قوة سياسية فاعلة، ومسيطرة على الأرض. ويستوجب وضعها هذا النقاش معها، وعدم تجاهلها أو معاداتها بسبب عدائها مع تركيا مثلاً، أو بسبب علاقاتها المفتوحة مع النظام وروسيا، أو ارتهانها لحزب العمال الكردستاني الذي يقيم علاقات تاريخية قوية مع النظام السوري وإيران.
تناسلت من “الائتلاف” هيئات ولجان، أهمها الوفد المنخرط في لقاء أستانة، والذي تابع تسليم مناطق خفض التصعيد منذ 2017 وشرعنته. ولا يزال العمل جارياً به، وهو لقاء تقوده روسيا وتركيا خصوصاً. وميدانياً، أدّى إلى تسليم المناطق، ورسم الحدود بين مناطق سيطرة تركيا، وروسيا، وإيران، والنظام، ويمكن تعديلها وتبديلها، وفقاً لمقتضيات تناقض المصالح بين روسيا وتركيا خاصة، مع ضرورة الإشارة إلى أن روسيا هي المتحكّم الأكبر بكل مسار أستانة، وسوتشي من بعده، واللجنة الدستورية.
في ضرورة تفكيك مؤسسات المعارضة
هناك لجنة التفاوض، العاملة ضمن اللجنة الدستورية، وانتفت الحاجة إليها، بعد أن تخلّت عملياً، عن قرار مجلس 2254، والذي ينطلق من ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالي، كاملة الصلاحيات، وبعدها يتم نقاش القضايا كافة، الدستور، والإرهاب، والسيادة الوطنية، وسواها. لم يتحقق ذلك كله، واخُتصرت أعمالها بوفد اللجنة الدستورية، وتُناقش فقط قضية الدستور. الطريف أن النظام لا يعترف بالوفد الذي يرسله! وبالتالي، كان الهدف منها شطب القرارات الدولية، التي تؤكّد ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالي أولاً، وضرورة المحاسبة، والعدالة الانتقالية. أيضاً هناك الحكومة المؤقتة، وهناك لجان أخرى، وأيضاً لم يعد أحد يهتم بها، ولم تستطع أن تقوم بأية أعمال ذات أهمية في مناطق سيطرة الفصائل التابعة لتركيا. وبالتأكيد، ليس في مناطق هيئة تحرير الشام، وكذلك لم تهتم المعارضة بالمناطق التي كانت تحت سيطرتها قبل 2017، وسُلمت لاحقاً للنظام من دون حرب تقريباً.
أصبح الائتلاف الوطني ووفوده نافلي الغرض لدى أغلبية الشعب المعارض. وهناك انتقادات كثيرة له من أطياف المعارضة والشعب، ولم يعد هناك مبرّر واحد يسمح بضرورة وجوده؛ فلا مناطق يسيطر عليها، خارج سيطرة تركيا وأميركا وهيئة تحرير الشام، فملايين النازحين، تتدبر شؤونهم الدول الخارجية، وسكان المخيمات متروكون للمنظمات المدنية، والفصائل ليست تابعة لـ “الائتلاف” بل لتركيا. وبالتالي، ما هي مبررات ائتلاف كهذا ومؤسساته؟ نعم، تتطلب أوضاعه نقاشاً وندوات كثيرة. وهنا، نحث المراكز التي ستتقدّم بأبحاثٍ عن أوضاع المعارضة وكل ما يخص الوضع السوري على ضرورة النقد ودون حدودٍ أو شروط أو مسبقات ما. يخطئ القائمون على ندوة الدوحة في دعوة شخصياتٍ كانت في رئاسة المجلس الوطني السوري، أو الائتلاف الوطني؛ فهي مسؤولة عما حدث، ولم تتقدّم بأية مراجعات لدورها ذاك في السنوات السابقة. وبالتالي، لن تُناقِش أوراقها شيئاً مفيداً، وستكرّر لازمة أن النظام وحده المسؤول عن كل أحداث سورية. وبالتالي، ستدفع تلك الأوراق النقاش نحو نقطة الصفر من جديد، وليس نحو قراءة الأوضاع الراهنة، وتحميل النظام والمعارضة المسؤولية وفقاً لإمكانات كل منهما، وهناك مسؤولية الخارج والفصائل والفساد والتبعية وسوى ذلك. من دون فهم الوضع الراهن وتحديد المسؤوليات، ليس من أفكارٍ جديدة تُبنى عليها استراتيجية وطنية للسوريين، معارضين أو لدى النظام.
هناك إجماعٌ كبير بين المعارضين، على ضرورة حلِّ كل مؤسسات المعارضة، واعتبار سورية ونظامها ومعارضاتها فاشلة، والانسحاب من كل اللقاءات الدولية، وفي مقدمتها اللجنة الدستورية ولقاء أستانة، وتسليم سورية لمنظمات هيئة الأمم المتحدة، مع حثها على تطبيق القرارات الدولية التي صدرت بإجماع الدول العظمى، ومنها روسيا، مداخل لحل المشكلة السورية، واختيار هيئة حكم انتقالي، من شخصيات وطنية وازنة، وتشكيل مؤسسات جديدة، لإدارة المرحلة الانتقالية، ريثما تخطو سورية نحو الانتقال الديمقراطي. وطبعاً لا يجوز تسليم البلاد لمجلس عسكري، كما يقول بعضهم، بل يجب أن يخضع هذا المجلس لهيئة الحكم الانتقالي؛ تجربة السودان تؤكد هذه الفكرة بقوّةٍ. هل هذه الخلاصة قضية صعبة التطبيق، وغير قابلة للتحقق. وإذا كان الأمر كذلك، ما هو السبب؟ الإجماع الشعبي يقول: لم يعد هناك من مبرّرات لوجود “الائتلاف” ومؤسساته ووفوده، ولم يعد للاعتراف الدولي فيه أدنى اعتبار.
لا يمكن تفسير رفض حلِّ مؤسسات المعارضة إلا بسبب رفض الدول التي تشرف عليها، ومن أجل تمرير مزيدٍ من السياسات الروسية، حيث عملت الأخيرة من أجل تأجيل الحل السياسي منذ 2011، ولفرض إعادة تأهيل النظام عالمياً، وإقليمياً. وبالطبع، لا قيمة لدى روسيا للمعارضة السورية، ووظفت وفودها من أجل شرعنة دورها في سورية وشرعنة النظام؛ لكل هذه الأسباب يجب حل كل مؤسسات المعارضة.
هل من بديلٍ ثوري؟
ليس هناك أيّة ملامح لبديل ثوري في سورية، واللقاءات التي تتم في هذه العاصمة أو تلك بين أفراد معارضين أو أحزاب أو .. أو ..، ومنذ سنوات لم تستطع وضع الأساس الأوّلي له؛ وربما بسبب غياب الروح الثورية لدى تلك الفئات. ضمن ذلك، لا يمتلك الاتجاه النقدي الذي يُكفر كل تيارات المعارضة ومواقفها، ويزعم تمثيل الثورة، أو يحاول تمثل أفكارها ورؤاها، استراتيجية ناضجة لمجمل المشكلات التي أصبحت عليها سورية. إن الانطلاق من مجريات الثورة، كما في 2011، و2012، وضرورة الالتزام بأهدافها، والقطيعة عما سبقها من استراتيجيات وبرامج وأفكار، تخطتها تطورات الثورة ذاتها أولاً، وثانياً، ما أصبحت عليه أوضاع سورية من تعقيدات كبرى، وتستلزم، كما قلت تسليم سورية إلى هيئة الأمم المتحدة، وبالتالي، ضرورة تجاوز الوضع السوري والثورة، والمعارضة والبديل الهامشي. وبالطبع، لا تمتلك الدول المتدخلة حلاً، بل هي من ترفض الوصول إلى صفقة سياسية للوضع السوري منذ سنوات.
من العقلانية بمكان عقد ندوات ونقاشات واسعة ومستفيضة ومستمرّة، وممنهجة للوضع السوري. ويُفترض أن تقود تلك الندوات شخصيات وطنية، ترتفع عن منظورات أية قوى سياسية محدّدة، بل أن تستقيل منها من أجل تلك النقاشات، وتعميم الخلاصات الفكرية والسياسية والبرنامجية، وتشكيل لجان متابعة لمجريات تلك النقاشات. من الخطأ تكفير ومصادرة حق الجماعات التي تبادر للنقاش، في هذه الدولة أو تلك. والأصح، الحث على أوسع نقاشات ممكنة، وأن تكون بإشراف منظمات الأمم المتحدة؛ فهي المكان الأفضل لإتاحة النقاش الحر، وبعيداً عن ارتهانات الدول أو التمويل وسواها.
المصدر: العربي الجديد