د. مخلص الصيادي
الخطوة الروسية، بالاعتراف باستقلال الاقليمين الاوكرانيين، واعتبار الوجود الأوكراني كله بمثابة ” صدقة قدمتها روسيا لوجود اوكراني مستقل ” حسبما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما يمكن أن يتبع هذا الاعتراف من إلحاق هذين الإقليمين بعد تحولهما إلى دولتين مستقلتين بروسيا، أو بسط الحماية العسكرية الروسية رسميا عليهما. كل هذا يعتبر من الخطوات التي كانت متوقعة. ويجب توقع المزيد ، وهي خطوات تؤكد أننا أمام حدث دولي بامتياز، وأن نظاما دوليا جديدا بات في طور الولادة، وأن هذا النظام لن يتولد من خلال محادثات ومفاوضات تجري في إطار الأمم المتحدة كما كان متخيلا عقب تحلل الاتحاد السوفياتي. وإنما سيولد في ظل تغيرات تجري على الأرض وبالقوة، لكن بدون انفجار صراع عسكري قاري أو أممي، لا يستطيع العالم مهما بلغ جنونه أن يتحمله.
فقد أفقد توفر السلاح النووي لدى الدول الكبرى إمكانية اللجوء إلى هذا السلاح ، كما أفقد فرص وجود صراع مسلح تقليدي منضبط بين الدول الكبرى، ولم تعد هناك فرص لحل أي صراع بين الكبار إلا من خلال إدراك الأطراف لمصالح بعضهم البعض.
ولعل مسار الأزمة الأوكرانية يثبت أنه مثل هذا التحرك الروسي الحاسم ما كان يمكن أن يتم لولا فشل واشنطن في التعامل مع الأزمة السورية. وفشلها في التعامل مع الملف النووي الإيراني، ومع التمدد الايراني الاقليمي، واستهتارها بالمصالح الصينية في اقليم بحر الصين، وفي تايوان، وفي نقاط اشتباك أخرى. من مثل الاستخفاف الأمريكي بالمصالح الاقتصادية للدول الأوربية، وخصوصا الطاقة، والتجارة.
وإذ اعتبرت واشنطن أن هذه كلها نقاط اشتباك صغرى، أو نقاط اشتباك ثنائية، لا تستأهل تفكيرا ومواقف استراتيجية، فإن ما فعلته روسيا في أوكرانيا يستند إلى القوة التي اكتسبتها موسكو نتيجة المحصلة العملية للأداء الأمريكي السيء في كل هذه الملفات.
أما التهديد بالعقوبات الاقتصادية، والمالية، والضغط الدبلوماسي فهو مؤشر جديد على أن واشنطن لم تفهم بعد أبعاد ما يجري، ولم تفهم أن التسليم بكونها “قائدة النظام الدولي”، لم يعد يلقى القبول، وأن الطريقة الوحيدة لتدارك الوضع هو الانخراط الفعلي والشامل في عملية أممية تستهدف توليد نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، تحدد فيه الخطوط العامة الأمنية والاقتصادي ( الطاقة، التجارة، النقل، الفضاء)، والقيمية، وآليات حل النزاعات. نظام يشارك في صوغه أقطاب النظام العالمي كلهم.
ولعله من المفيد أن نستحضر هنا الحقيقة الواضحة وهي أن تعدد الأقطاب النووية على المستوى الدولي ، هو ما يمنع فرصة انفجار صراع دولي شامل بعد الحرب العالمية الثانية ، ولم يستخدم هذا السلاح إلا حينما كانت تملكه دولة واحد ” الولايات المتحدة”، وبالتالي فإن الحديث عن منع انتشار السلاح النووي – وهذه سياسة أممية متبناه- أمر غير صحي، وغير واقعي وهو لم يطبق فعليا. والأمثلة أمامنا واضحة ومعلنة في الكيان الصهيوني، والهند وباكستان، ودول أخرى قد تكون إيران في مقدمتها.
وقد يكون من المفيد للنظام الدولي الجديد المرتقب استبدال شعار حظر انتشار السلاح النووي كلية، فإن لم يكن هذا ممكنا فإن البديل يمون في تنظيم هذا الانتشار.
وإذا كان من المؤكد أن نظامنا العربي، والنظم الاقليمية المرتبطة به، لا يظهر أن له نصيب في تشكيل الوليد الجديد، فإن تعدد الأقطاب قد يفسح المجال لدول هذا النظام الاقليمي عند أول فرصة ليكون له دور رسم معالم النظام الدولي الجديد ،أو التأثير فيه، كما حدث من سابق حينما توفرت فرصة ولادة حركة عدم الانحياز.