د. مخلص الصيادي
يمثل الناصريون قطاعًا مهمًا من الرأي العام العربي، وتحتل الرؤية الناصرية للأحداث مساحة واسعة في العقل العربي. وهي تستدعي مباشرة تلك المرحلة المزدهرة من تاريخنا المعاصر حيث كان لنا كعرب موقعا ودورا على خريطة الأحداث الإقليمية والدولية سواء كنا في مراحل الانتصار والزهو، أو كنا في مراحل التراجع والانكسار، فمكانتنا كانت متحققة ومؤثرة في كلا الحالتين.
وفي كل الأحداث المعاصرة يستدعي الفكر السياسي العربي الموقف الناصري، استرشادا واهتداء، أو مقايسة ومقارنة، أو استقواء وتسترا.
فاستدعاء جمال عبد الناصر، وزمنه، ومواقفه، يجري في اللحظات والمواقف الفارقة من قوى عديدة تفترق وتتصارع في مواقفها، لكنها تستشعر بأهمية المرور بموقف أو قرار أو شعار لتلك القيادة التاريخية، ولتلك المرحلة الفارقة.
ولا شك أن تطورات الملف الأوكراني تعتبر من الأحداث الفارقة والتي سيكون لها أثرها في عالم الغد.
فأين يرى الناصري موقعه من هذا الحدث، وكيف يقرأه، وكيف يستطيع أن يجسد “رؤية ناصرية ” يلتزمها تجاه تطورات هذا الملف.؟
ولسنا بحاجة الى التدليل على أهمية “الحدث الأوكراني”، ولا على قربه منا ومن قضايانا، فكل المشتبكين هناك في أوكرانيا نجد صداهم عندنا في سوريا. وفي العراق، وفي لبنان وكذلك في إيران، وفي غير إيران، بل إن من صناع الحدث الأوكراني قفزوا وبشكل مبكر لجعل “الحدث السوري” في صلب ما يجري في أوكرانيا، حينما تحدثت البروباغندا الروسية عن انتقال مقاتلين “مجاهدين” من سوريا إلى أوكرانيا لنصرة كييف في هذا الصراع.
وبعض هذا الحديث كان سخيفا ووضيعا. لكن بعضه الآخر كان تعبيرا حقيقيا على ترابط الوضعين عند صناع الحدث، وتراصهما على بساط متحرك واحد.
ونحن حين نتحدث عن الموقف الناصري فإننا نتحدث عن موقف أساسه “الحق والعدل واحترام إرادة الشعوب”، وقاعدته “احترام والتزام استقلال الدول وحريتها وسيادتها”، بغض النظر عن موقفنا من النظام أو النظم أو القوى المتصارعة داخل كل بلد، أو الزعامات والقيادات في هذه البلدان.
فموقفنا الأول موقف استراتيجي يعبر عن التزامنا المبدئي الذي لا نحيد عنه.
واستنادا لهذا الموقف فإن ما حدث ويحدث إزاء أوكرانيا يمثل اعتداء روسيا مسلحا على دولة مستقلة ذات سيادة، وهو اعتداء لا يمكن أن يلقى منا تشجيعا أو قبولا، أو تفهما.
نحن ندرك أن القوى الحاكمة في كييف أمريكية الهوى، وأن هناك مشاكل عرقية داخل المجتمع والدولة الأوكرانية، وأن هناك علاقات ثقافية وتاريخية، ودينية، ومصالح اقتصادية وأمنية بين أوكرانيا وروسيا، يجب أن تؤخذ بالاعتبار، لكن هذا كله على أهميته لا يشرع، ولا يبرر، ولا يسمح، بالتعدي على وحدة وسيادة الدولة الأوكرانية، ولا يجوز أن يتخذ مبررا لقبول هذا المسلك الروسي العدواني.
لقد سمع العالم كله، خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي ذكر فيه العلاقات الخاصة بين روسيا وأوكرانيا والتي وصل فيه الى درجة القول بأن أوكرانيا “صناعة روسية حديثة”، وسيكون من قبيل إضاعة الوقت، والدخول في متاهة لا نهاية لها أن نقف لبحث ما أتى عليه بوتين في هذا الجانب، خصوصا إذا تذكرنا أن جهود القيادة الروسية الرسمية والموثقة منذ أن ظهرت هذه الأزمة تركزت على الجانب الأمني، وكان المطلب الثابت هو ابتعاد الناتو عن أوكرانيا ـ وعن غير أوكرانيا من دول كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي ـ، واعتبار انضمام أوكرانيا للحلف الآن أو في المستقبل من الخطوط الحمر التي لا يمكن لموسكو القبول بتجاوزها، أو التفاوض حولها.
إن هذا يعني أن كل ما ورد في خطاب بوتين عن العلاقات الروسية الأوكرانية لا قيمة حقيقية له ولا وزن له في ميزان الأزمة الراهنة. وأن المسألة من البداية للنهاية مسألة أمنية. لذلك ونحن نبحث في تحديد موقفنا من هذا الحدث علينا أن نضع كل ما عرضه الرئيس الروسي وراء ظهرنا، لأنه يفتقد أي قيمة قانونية. بل إنه يكشف عن اخلال روسيا بالتزاماتها المتكررة والموثقة الدولية والثنائية تجاه أوكرانيا.
إن المأزق الروسي في كل ما يطرح يكمن في أن روسيا “الدولة الروسية” وافقت حين تحلل الاتحاد السوفياتي، وحين اعتبرت نفسها وريثته، وقبلت بانفصال هذه الدول واستقلالها في إطار الحدود الجغرافية التي هي عليها في العام 1990 وهي نفسها الحدود التي كانت يوم تشكل الاتحاد السوفياتي، وفي إطار التركيبة العرقية والثقافية التي تضمها، وفي إطار توزيع المؤسسات والثروات التي كانت عليها الدولة السوفياتية، وبذلك نالت أوكرانيا استقلالها عام 1991 وبالتالي فليس من حق موسكو أن تتحدث الآن وبعد أكثر من ثلاثة عقود على انفراط عقد الاتحاد السوفياتي عن حدود شرعية هذه الدولة، أو تلك، من الدول التي تخلفت عن الاتحاد السوفياتي.
والذي يراجع تلك المرحلة سيكتشف أنه كان هناك استثناءات رئيسية كانت تحتاج إلى معالجة حتى يستقيم الأمر لروسيا وحتى ترث فعلا وفي في إطار توافق دولي الاتحاد السوفياتي وظهرت هذه الاستثناءات في ملفات ثلاثة:
الملف الأول: الملف النووي الأوكراني.
الملف الثاني: مرفأ الأسطول الروسي في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود.
الملف الثالث: قاعدة إطلاق الصواريخ الفضائية الروسية “بايكونور” في كازاخستان.
وقد تم معالجة هذه الملفات الثلاثة عبر اتفاقيات ثنائية وأخرى دولية حسبما تقتضيه كل حالة.
** فقد نظم اتفاق روسي كازاخستاني العلاقة إزاء قاعدة بايكونور والتي باتت لاحقا مركز إطلاق تشارك فيه وكالة ناسا الأمريكية.
** ووقعت كل من روسيا الاتحادية وبريطانيا وإيرلندا الشمالية والولايات المتحدة في 5 ديسمبر 1994 اتفاقية أمنية مع أوكرانيا عرفت ب”اتفاقية بودابست” وفرت ضمانات أمنية لكييف مقابل تخليها عن ترسانتها النووية ـ والتي كانت تضم ثلث الترسانة النووية للاتحاد السوفياتي ـ، وانضمامها إلى معاهدة الحد من الانتشار النووي.
وتضمنت هذه الاتفاقية فيما تضمنت:
1ـ احترام استقلال وسيادة أوكرانيا في حدودها.
2ـ امتناع هذه الدول عن التهديد باستعمال القوة، أو استعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأوكرانيا وانها لن تستخدم أيا من أسلحتها ضد أوكرانيا.
3ـ الامتناع عن أي عمل اقتصادي يهدف اخضاع أوكرانيا لمصالح هذه الدول.
4ـ التزام هذه الدول بتقديم المساعدة لأوكرانيا اذا وقعت ضحية لعمل عدواني او هدفا لعدوان استخدمت فيه الأسلحة النووية.
5ـ واختتمت الاتفاقية بالنص على ضرورة التشاور بين هذه الدول جميعا عند ظهور أي مشكلة تضع هذه الالتزامات موضع تساؤل وشك.
وفي حينها كان يعتقد أن هذه الاتفاقية عالجت كل مخاوف أوكرانيا وروسيا إزاء المرحلة الجديدة التي تخلفت عن تحلل الاتحاد السوفياتي، خصوصا وأن الاتفاقية موقعة مع أطراف دولية وبالتالي لم تعد اتفاقية ثنائية. لكن ظهر سريعا أن الأمر ليس كذلك، بل إنه مع بدء نهوض روسيا من كبوتها التي حكمت مرحلة الرئيس بوريس يلتسين، ومجيء بوتين إلى الحكم رسميا مطلع هذا القرن بدأ التحرك لإعادة ترتيب المجال الحيوي لروسيا، الإطار الإقليمي لروسيا الاتحادية، والدور الدولي لها، وهنا ضربت روسيا عرض الحائط ب”اتفاقية بودابست” وقامت في مارس من العام 2014 باحتلال جزيرة القرم حيث “ميناء سيفاستوبول” منفذ البحرية الروسية على البحر الأسود، ورئتها، وقامت بدمج هذا الإقليم بروسيا من خلال مسرحية استفتاء أجرتها موسكو في الجزيرة بعد أن مكنت اتباعها وبالقوة من السيطرة على السلطات الرئيسية في شبه جزيرة القرم.
ومع نمو الرغبة في ترتيب “إطار التأثير الروسي” وعقد عدد من اتفاقات التعاون الأمني والاقتصادي مع عدد من دول الاتحاد السوفياتي السابقة تصاعدت رغبة موسكو في ضبط التوجه الأوكراني على الموجة الروسية ذاتها، باعتبار أوكرانيا هي الدولة الثانية بعد روسيا البيضاء “بيلاروسيا” قربا (جغرافيا وحضاريا وسياسيا ولغويا) من موسكو. لذلك اتخذت القيادة الروسية من هزيمة القوى السياسية المؤيدة لها في الانتخابات العامة في أوكرانيا عام 2014 مدخلا لتعزيز تدخلها في الشأن الأوكراني من خلال دعم الأوكرانيين من أصل روسي في إقليمي “دونستيك، ولوهانسك” ومطالبهم باستقلال ذاتي وبضرورة إعادة ترتيب أوكرانيا على قاعدة الحكم الكونفدرالي، وهذا يعني بدقة وضع أوكرانيا على طريق التفكك.
ولقد أمكن لأسباب عديدة إقليمية ودولية التوصل إلى اتفاق يوقف القتال في “دونباس” شرقي أوكرانيا بين الانفصاليين في هذين الاقليمين المدعومين روسيا وبين حكومة كييف، وتم التوقيع على هذا الاتفاق في “مينسك” عاصمة روسيا البيضاء برعاية منظمة الأمن والتعاون في أوربا، وفي هذا الاتفاق ـ الذي بقي مهتزا وغير فعال ـ اعتراف روسي بوحدة الأراضي الأوكرانية مع إعطاء وضع خاص وآلية عمل محددة لمنطقة دونباس.
في الأزمة الراهنة، كشفت موسكو أنها اشترطت للموافقة تفكك الاتحاد السوفياتي ألا يقترب الناتو من دول الاتحاد السوفياتي السابقة. مستثنية من ذلك دول البلطيق الثلاث: لاتفيا، استونيا، وليتوانيا، وأن ميخائيل غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي حصل عام 1990 على تعهد شفهي بهذا الشأن من وزير الخارجية الأمريكي حينها جيمس بيكر.
كل ما سبق يرسم بيئة الأزمة الراهنة التي باتت تهدد السلام والأمن الأوربي والعالمي أيضا، وهي أخطر أزمة دولية يتعرض لها العالم منذ انتهاء النظام الدولي ثنائي القطبية.
وكل ما سبق يوضح أن القضية برمتها قائمة على تصور” الأمن القومي الروسي” ومستلزمات عودة روسيا لممارسة دورها كقطب مواز للقطب الأمريكي. وأنه في خضم هذه المسألة حدث خلل في العلاقة الروسية الأوكرانية، حيث لم ينتظم الوضع في أوكرانيا على نحو ما تريده موسكو، وما يحقق مصالحها ورؤيتها الأمنية لدورها الجديد.
وهذا الأمر وتحت أي اعتبار لا يتيح لجار قوي اجتياح وتقسيم وتجزئة دولة مجاورة مستقلة، وذات سيادة.
لذلك قلنا إن ما قامت به موسكو هو عدوان سافر لا مبرر له، لا يمكن قبوله، ولا يمكن تفهمه ولا يجوز تبريره. وأن موسكو فيما قامت به تثبت مجددا أنها دولة امبريالية، شأنها شأن الولايات المتحدة، وقد سبق أن أثبتت ذلك فيما قامت به في سوريا دعما لنظام قاتل فاسد طائفي ومستبد، وفيما ارتكبته من جرائم عبر عمليات القصف الصاروخي وقصف الطائرات الاستراتيجية التي انطلقت من مواقع عدة في البحر الأسود، والمتوسط مستهدفة مدينة حلب ودير الزور والرقة وادلب، وغيرها.
لكن هذا الموقف والحكم الصائب والدقيق لا يجوز أن يخفي دور الدور الأمريكي في تفجير هذه الأزمة، ومسؤوليته في تطوراتها.
بشكل مبكر كانت هناك دلائل على أن واشنطن لا تستطيع لوحدها فرض نظام دولي جديد وتحمل تبعات وتكاليف ذلك، وأنه مع انفراط عقد الاتحاد السوفياتي صار لزاما البحث عن نظام أمني واقتصادي وقيمي جديد للعالم، وكان هذا الإحساس طاغ في كثير من عواصم العالم، وقدمت تصورات ومشاريع لتعديل بنية الأمم المتحدة لتتلاءم مع الوضع الجديد، لكن واشنطن رفضت أي تعديل، بل إنها أحكمت قبضتها على مؤسسات المجتمع الدولي لتكون هذه حارسة لمصالحها وسياساتها وقيمها. وحاولت خنق بعض هذه المؤسسات حينما لم تتجاوب مع رغباتها، ويظهر هذا واضحا ومتكررا في كل ما يخص الشأن الفلسطيني ثقافيا وأمنيا وانسانيا.
وبشكل مبكر فقد حلف الناتو مبرر وجوده، ولم تعد لهذه المؤسسة الأمنية ضرورة بعد أن تجاوز العالم الانقسام القطبي، وبعد أن تم في يوليو من عام 1991 رسميا حل حلف وارسو، ومع ذلك رفضت واشنطن حل الحلف، أو البحث عن إطار أمني دولي آخر، وراحت تبحث عن عدو دولي جديد يبرر استمرار وجود الحلف.
ولنسترجع هنا أن هذا الحلف الذي تسيره واشنطن هو الذي قاد الحرب على أفغانستان واحتلها عام 2001 ودمرها على مدى عشرين عاما، وهو الذي احتل العراق عام 2003 ودمره وفتت لحمته الوطنية وسلمه في النهاية لعملاء جاؤوا مع دباباته ليكون هذا البلد العربي المركزي لاحقا تحت وصاية ولاية الفقيه الفارسية.
وهو الذي تدخل رسميا في ليبيا ونفذ أكثر من ستة آلاف ضربة جوية دمرت البلاد وأطلقت يد الميليشيات المحلية وأدخلت البلاد في صراع داخلي مدمر ما زال مستمرا.
وهو الذي قاد ما يدعى بالحرب على الإرهاب في المشرق العربي متعاونا بشكل مباشر أو غير مباشر مع قوى وأنظمة محلية فاسدة وقاتلة وانفصالية بدعوى ملاحقة وهزيمة داعش، وداعش نفسها تحمل الكثير من البصمات المشبوهة.
وفي الأزمة الأوكرانية نستطيع أن نلمس الدور والأثر السلبي للناتو من خلال وجوده نفسه، وسعيه للتوسع دون أن يكون لهذا التوسع حاجة فعلية، وحين يكون التوسع شرقا، فهذا يعني بالحتم أن العدو موجود شرقا، وهذه حقيقة قدمها الناتو لموسكو على طبق من ذهب، ليقوم الدب الروسي ويتخذها سببا وذريعة لإعادة تأهيل نفسه، وترتيب حديقته، وليرتكب هذه العدوانية بحق جيرانه.
الموقف الراهن معقد جدا، إذ ليس سهلا الدخول في حرب مع روسيا، لا الولايات المتحدة تستطيع ذلك، ولا الناتو يريد أو تستطيع ذلك، ولا دول الاتحاد الأوربي تستطيع أو تريد ذلك، والذهاب سريعا في مواجهة هذا العدوان إلى بند العقوبات والحصار الاقتصادي يظهر أن واشنطن لم تدرك بعد حجم التغييرات التي شهدها العالم خلال العقود الثلاثة الماضية على المستويات المختلفة: الاقتصادية، والتجارية، والاتصالات، والطاقة، والأمن، وقد طالت هذه التغيرات مجمل دول آسيا وأروبا.
كذلك يظهر الإسراع في اللجوء إلى العقوبات ـ أداة لكبح جماح القيادة الروسية ـ أن واشنطن لم تدرك بعد طبيعة هذه القيادة، وطبيعة أنظمة الحكم المتحكمة في دول هذه المنطقة (روسيا، الصين، إيران، روسيا البيضاء، وأمثالها). ولم تدرك أن كل العقوبات الممكن اتخاذها ـ والتي سيكون لها تأثير بلا شك ـ لن تغير كثيرا في مواقف هذه النظم، بل إن تأثير هذه العقوبات سيظهر أيضا على الدول الغربية دونما استثناء، وفي مقدمتها الدول الأوربية، وذلك بسبب حجم وعمق علاقات العمل والإنتاج والتسويق والتبادل والانتقال التي فرضها التقدم على النظام العالمي.
وبالمقابل لا يمكن أن يستقيم الأمر لروسيا وهي تعتمد على فرض ما تريد بقوة السلاح، لا يمكن أن يستقيم الأمر مع سياسة تؤدي إلى تقسيم وتجزئة بلد مستقل بقوة السلاح، بلد اعترف الجميع باستقلاله وتعامل معه على هذا الأساس منذ أن أعيدت له سيادته كما أعيدت لغيره من دول الاتحاد السوفياتي.
وروسيا فيما أقدمت عليه تقدم مثلا سيئا للدول والشعوب المحيطة بها والتي ارتبطت بها سابقا وما زالت بوشائج مختلفة تاريخية، وثقافية، واقتصادية، وأمنية.
بل إن روسيا فيما قامت فيه قدمت دليلا عمليا على حاجة دول الجوار الروسي إلى قوة كبيرة معتبرة، أو إلى بناء تحالف يولد مثل هذه القوة، تستطيع من خلالها أن تدافع عن نفسها أمام التغول الروسي. وإذ يظهر واضحا لهذه الدول عدم فاعلية الناتو في راهن وضعه في الدفاع عنها، فإنها تصبح مدعوة الى تفعيل هذا الحلف، أو إلى البحث عن بديل إقليمي قادر على حمايتها، وكل هذه خيارات صعبة، وبعضها يبدو غير متاح، وتدل على عمق الأزمة التي فجرها الغزو الروسي لأوكرانيا.
في المحصلة لن تكون روسيا فائزة في هذه المعركة أيا كانت نتائجها الراهنة، ولن يجدي موسكو محاولة زرع قيادة أوكرانية تابعة لها في كييف، ولعله كان ممكنا أن تحقق مثل هذه المحاولة شيئا لو أنها جاءت قبل الاجتياح، لكن الدبابات الروسية أسقطت فرصة نجاح مثل هذه المحاولة، وقد أعادت روسيا في هذه الأزمة تأكيد طبيعتها الإمبريالية التي سبق أن كشفت عنها في سوريا.
وكذلك في المقابل لن تستطيع الولايات المتحدة والناتو والدول الأوربية السائرة في الركاب أن تحسم شيئا في هذه المعركة، وهي جميعها تقف عاجزة لا تجد أمامها إلا أسلحة لا تجدي في مثل هذا التحدي، لأنها أسلحة ضغط وليست أسلحة حسم.
في النهاية لابد للجميع من البحث عن مخرج، يحقق ولو الحد الأدنى المطلوب لكل طرف من الأطراف، ويتقدم هذا كله مطلب تأمين وحدة وسلامة واستقلال الدولة الأوكرانية.
وأيضا لابد للجميع أن يدرك أن أي حل للأزمة الأوكرانية لا يأتي على جذورها من العمق لن يأتي بسلام حقيقي، وسيكون مجرد تهدئة مرحلية لا تلبث أن تعود للتفجر، لكن مع ذلك فالجميع بحاجة الى حل مرحلي يطفئ نار الحرب الراهنة، ويمكن أن يفتح المجال لاحقا لحل مستقر دائم.
وحين نكون أمام البحث عن حل دائم، عن سلام دائم فإن أول خطوة في هذا الطريق ستتمثل في إعادة النظر ب “مفهوم الأمن العالمي”، وإعادة بنائه على قاعدة رؤية شاملة قائمة على تعدد الأقطاب، تلتزم وتحترم بشكل صارم وحدة واستقلال الدول، وأمنها وأمن جوارها، وفي إطار هذه الرؤية يجب أن ينتهي وجود حلف الناتو، وأن يناط الأمن، أمن العالم وقاراته ودوله، برؤية شاملة تلتزمها الأمم المتحدة بعد أن تطور هذه المنظمة مؤسساتها على أسس حضارية جديدة قادرة على تمثل مختلف دول العالم وثقافاتهم وتطلعاتهم.