راغدة درغام
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس بمفرده محشوراً في الزاوية بسبب خوضه الحرب الأوكرانية من دون استراتيجية خروج منها، ولا استراتيجية بقاء تحقّق له طموحاته أو جزءاً منها.
فالقيادات الغربية، وفي طليعتها الرئيس الأميركي جو بايدن، تستفيق الآن من زهوتها بوحدتها الى جديّة خطورة هرولتها الى عقوبات وإهانات لبوتين، لزجّه أكثر فأكثر في الزاوية من دون التفكير المسبق بنوعية حبل الخروج منها. هكذا وجدت هذه القيادات نفسها اليوم بدورها في خانة “اليك”، تتدارس السيناريوات المرعبة التي تمسح عن وجوهها تلك البهجة بورطة بوتين.
الوضع الحالي يتطلّب بالضرورة التفكير خارج الصندوق، لأن ما نشهده لا سابقة له في تكتيكات الحروب التقليدية واستراتيجياتها. مثل هذا التفكير يتطلّب تعريفاً غير اعتيادي لمعنى الفوز والانتصار أو الخسارة والهزيمة. يتطلّب قاموساً جديداً لتعريف النضج والقيادة الحقيقية بعيداً من المزايدات والمعادلات التقليدية. فهذا ليس وقت الحسابات الضيّقة أو الانغماس في مبارزات شخصية أو الإصرار على السحق كمبدأ أو نتيجة للمواجهة. ذلك أن اللحظة هذه تتطلّب جرأة استثنائية هدفها خروج الجميع من الزاوية.
وحده الرئيس جو بايدن لديه الأدوات لنقلة نوعية في هذا المنعطف. فإذا رفع سماعة الهاتف وقال للرئيس فلاديمير بوتين “تعال نتحدّث”، فلن تكون تلك الخطوة ضعفاً بل ستكون علامة فارقة في الجرأة والشجاعة والقيادة التي يحتاج إليها بايدن لمنع تدهور الأمور الى حرب عالمية في زمن الترسانة النووية.
تفاصيل الإقدام على خطوة استثنائية يجب أن يحدّدها أقطاب إدارة بايدن والمؤسسة العسكرية، فهذه مسؤولية تقع على أكتافهم. المهم الاقتناع بأن زج بوتين في الزاوية أكثر فأكثر سيكون مكلفاً للعالم أجمع، وللرئيس جو بايدن الذي سيُلام على عدم الجرأة بسبب ضعفه وتقليدية تفكيره. فالعبرة ليست في تلقين الدروس، بل هي في الإبداع بأفكار قد تكون بسيطة وتعطي انطباعاً خاطئاً، لكنها في صميمها تنطوي على نابغة منع وقوع حرب عالمية برؤوس نووية.
لعل مجرّد دعوة بايدن بوتين الى الاجتماع الطارئ معه ومع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي – وربما القيادة الألمانية والفرنسية أيضاً – قد يُعتبر لدى البعض مكافأة لاعتداء روسيا على أوكرانيا وتشجيعاً لبوتين نفسه على التمادي في الغزو والاحتلال. واقع الأمر هو أن مثل هذه الدعوة ستكون احتواءً لحروب مدمِّرة. فصيغة إنقاذ ماء الوجه لبوتين هدفها أن يتمكّن من خفض وتيرة التصعيد والعودة عن حافة الهاوية التي يأخذ العالم إليها.
الكلام عن المكافأة أو التنازل أو الانصياع لابتزاز الغزو والعدوان الروسي كلام ليس خاطئاً من زاوية التعريف التقليدي في قاموس الحروب التقليدية. لكن اليوم، يقف العالم أمام خيار الاحتواء للأسوأ أو خيار الانتحار الجماعي الذي لن يتراجع عنه فلاديمير بوتين إذا بقي محشوراً في الزاوية. فلاديمير بوتين لا يُحسن التراجع، لكنه يفهم لغة فتح ثغرة ويقرأ جيداً لغة الحبال الممدودة للتسلّق هبوطاً عن السلالم المستحيلة.
قد يُقال إن هذا الكلام هو المستحيل وإن فيه سخافة، بل إن البعض سيحتجّ عليه انطلاقاً من مبادئ ضرورة عدم التسامح مع غزو بوتين أوكرانيا وضرورة إلحاق الهزيمة بالقوات الروسية لسحقها وسحق مشاريعها لأوكرانيا. لو كانت هذه حرباً تقليدية، لكان هذا التفكير في محلّه.
الواقع ليس بهذه البساطة. فلاديمير بوتين عدو يجب قراءته بكل تمعّن ودقّة للتعرّف الى خطوط تماديه أو فرص عودته عن حافة الهاوية. فهو رجل خطير بكل معنى الكلمة. فإما تُمدّ إليه الحبال، وإلا فإنه جاهز للقيام بعمليات نووية ليس بالضرورة بقنابل نووية، بل برؤوس نووية لصواريخ استراتيجية. هذا الى جانب الحرب السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية في الولايات المتحدة وأوروبا، المالية منها والتكنولوجية.
وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن تصرّف بمسؤولية عندما قرّر إلغاء تجربة لصواريخ نووية كان مقرّراً إجراؤها، وذلك ليتجنّب تفسير روسيا لها بأنها استفزاز أو تصعيد نووي. إنه يتحدّث أيضاً بمسؤولية عندما يشرح أسباب عدم انجرار الولايات المتحدة لتلبية مطالب أوكرانية بفرض حظر الطيران، لأن ذلك، عملياً وفعلياً، يعني دخول الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في الحرب الأوكرانية. هذه رسائل مهمّة فحواها أن الولايات المتحدة ليست طرفاً مباشراً في النزاع المسلّح، ولا تريد أن تتحوّل هذه الى حرب روسيا مع حلف شمال الأطلسي (ناتو).
لكن خطر الانزلاق الى حرب أوروبية تنجرّ إليها الولايات المتحدة خطر قائم، إما نتيجة قرارات استراتيجية مبيّتة أو بحكم أخطاء ميدانية. اعتزام دول الناتو إرسال قافلات من المعدات العسكرية المتفوّقة الى أوكرانيا، تشمل صواريخ ألمانية يعتقد أن عددها 3 آلاف صاروخ، سيثير حفيظة بوتين الذي لن يسمح بإيصالها، كما لمّح وتعهّد.
روسيا ستوجّه ضربات عسكرية الى تلك القافلات بعد أن تعبر الحدود الأوكرانية، إذا قرّرت دول الناتو تفريغ الحمولة على الحدود الأوكرانية – البولندية، وهذا سيريح بوتين، وكذلك الناتو إذا استمرّا في قرار تجنّب توسيع الحرب. أما إذا قرّرت دول الناتو مرافقة القافلة الى داخل الأراضي الأوكرانية، فعندئذ سيكون أمام روسيا معضلة. فإما تسمح بعبور القافلة، ما يعطي الانطباع بأن بوتين يتراجع، وهذا مستبعد، أو تقوم روسيا بضرب قافلة الناتو فتتوسع الحرب الى روسية – حلف أطلسية.
ما يُخشى أيضاً هو أن تقرّر روسيا التوسّع في مولدوفيا أو جورجيا، علماً أن الدولتين ليستا عضوين في حلف الناتو، وبالتالي لن تتدخل دول حلف شمال الأطلسي مباشرة أمام التوسّع الروسي، لأنها أعلنت أنها لن تتدخل ما لم يقع التوسّع داخل دول تنتمي الى الحلف. فإذا تفاقمت العقوبات الغربية على روسيا، فليس مستبعداً أن تقوم القيادة الروسية بمثل هذه الخطوة انتقاماً من العقوبات، لا سيّما تلك التي ستتهاطل على المؤسسات المالية لتدمّرها مثل “سويفت” وتلك الموجّهة لإهانة الرئيس الروسي والحلقة المحيطة به لتجريدها من أموالها. وبهذا تترافق العقوبات والانتقامات في حلقة التدمير المتبادل.
فإذا كانت إدارة بايدن تبحث عن وسائل العودة عن حافة الهاوية، يمكن لبايدن أن يقول لبوتين إن هذه ليست عقوبات عقابية بالمطلق. صحيح أن الرئيس الروسي لم يقرأ جيّداً الرسالة الردعيّة وراء العقوبات عندما أنذر الرئيس الأميركي بأنها آتية قبل قيام روسيا بغزو أوكرانيا. لكن اليوم، بعد إقرار هذا الكم من العقوبات بصورة لم تكن منتظرة، في إمكان إدارة بايدن إيضاح عزمها على ترافق تقليص التصعيد de-escalate مع تقليص العقوبات. وهذا فعلاً ما يدعو إليه البعض داخل إدارة بايدن، بحيث تكون العقوبات أداة للتأثير الإيجابي leverage في مسيرة الحرب، وبحيث يمكن لفلاديمير بوتين أن ينسج ذلك أمام شعبه على أنه إنجاز، فيتمكن من بعض التراجع.
بالطبع هذا لا يكفي. الخطوات التكتيكية الصغيرة والكبيرة ضرورية لوقف الصدام الكبير، لكن المعالجة الجذرية تتطلّب استراتيجية كبرى.
لن يكون في المتناول إعطاء روسيا صكاً بالربح أو الانتصار في الحرب الأوكرانية، ولن يكون وارداً مباركة قضم روسيا لشرق أوكرانيا في دونباسك أو جنوبها بجانب شبه جزيرة القرم، ولا مجال لأي موافقة أميركية أو دولية على إسقاط الحكومة الأوكرانية أو تغيير دستورها بالقوّة أو إجراء استفتاء لشعبها حول الأقاليم الانفصالية تحت وطأة القصف والدبابات. هذا ما تريده القيادة الروسية، وهو ما لن تحصل عليه. والأرجح أن فلاديمير بوتين يدرك ذلك من دون أن يعترف به، أو أنه يجهله لكنه يصرّ على المضي به لفرض الأمر الواقع، كما فعل في القرم. ثم إن الورطة الروسية داخل أوكرانيا قد لا تثني الرئيس الروسي عن احتلال العاصمة كييف، مع أنها تتوعّد بحرب عصابات واستنزاف للقوات الروسية كما حدث في الماضي في أفغانستان.
لو لم يكن البعد النووي في المعادلة، لكان ممكناً القول: دع روسيا تُغرق نفسها في أوكرانيا لتكون موقع انزلاق قدمها في أوروبا، علماً أن تحقيق الانتصار العسكري في هذه الحرب قد يكون وارداً فقط في المخيّلة الروسية. فروسيا قد تربح معارك الحرب لكنها لن تتمكّن من السيطرة على بلد مثل أوكرانيا يتربّص بها لاستنزافها. وقد يقال إن الأخطر من الأخطر هو الرضوخ للابتزاز النووي، لأن ذلك سيكون سابقة مُكلِفة للعالم أجمع. وهذا صحيح.
إذاً، ما هي المساحة المتاحة للعودة عن حافة الهاوية؟ إنها في الأداء الدبلوماسي والسياسي الشجاع والقوي. إنه في إبداع الأفكار التكتيكية والاستراتيجية التي تتيح للجميع حبال الهبوط من السلالم العالية.
فلاديمير بوتين طالب الناتو، وبالذات الولايات المتحدة، بضمانات أمنية تشمل عدم توسّع الناتو شرقاً الى الحدود مع روسيا، بالذات عبر ضم أوكرانيا الى الحلف، والتخلّي عن نشر أسلحة هجومية قرب حدود روسيا، وإعادة البنية العسكرية للحلف في أوروبا الى خطوط عام 1997. القيادات الغربية اعتبرت هذه المطالب مستحيلة، واستهترت بفلاديمير بوتين وإنذاراته بالعمل العسكري إذا رفض حلف شمال الأطلسي التعاطي جدياً مع هذه المطالب. وهكذا كان، نفّذ بوتين ما أنذر به رداً على الاستهتار.
بعض هذه المطالب فعلاً مستحيل، لكن هناك مساحة لإعادة النظر. أوكرانيا اليوم تقف أمام الدمار والاحتلال والتقسيم وهي، حتى ببسالة شعبها، تدفع ثمناً باهظاً. بعض الأوكرانيين يرى أن دول حلف شمال الأطلسي خذلته لأنها تعهّدت عدم التدخل عسكرياً مهما بلغت القوات الروسية من أهداف. والبعض يتساءل: هل كان الانضمام الى عضوية الناتو يستحق إيصال أوكرانيا الى ما وصلت إليه؟
لعل هذه الحرب فرضت الحياد على أوكرانيا كأمر واقع، ولعلّ اتخاذ قرار عدم انتمائها الى الناتو يكون مدخلاً لضمان خروجها من تحت اللواء الروسي. المهم ألا تُقدّم أوكرانيا قرباناً في حرب روسيا مع الغرب، وهذا يتطلّب نضجاً سياسياً ووعياً للغة المصالح بين الدول الكبرى.
سيكون مفيداً جداً لو قرّر الرئيس جو بايدن أخذ زمام القيادة الخلّاقة والجرأة على التحديق في وجه الرئيس فلاديمير بوتين ليقول له: هذه حرب يجب أن تنتهي. سيكون مدهشاً لو حسم الرئيس بايدن الجدل حول ضعفه وتقديمه للأوروبيين ثمناً للحرب الروسية – الأميركية في نظر البعض، ليتقدّم باستراتيجية استباقية توقف روسيا عن زحفها على العاصمة الأوكرانية. هذا يتطلّب الشجاعة الاستراتيجية. وهذا ليس أبداً انسياقاً للابتزاز النووي بل سيكون إنجازاً لتجنيب القارة الأوروبية والولايات المتحدة الانجرار الى الكارثة.
المصدر: النهار العربي