حسن النيفي
كعادته قبل انعقاد أي لقاء بين وفود اللجنة الدستورية، يحرص (غير بيدرسون ) على أن يكون شديد الحماس والمواظبة على حشد المعنويات ودفعها إلى الواجهات الإعلامية موحياً للرأي العام بأن عربة اللجنة الدستورية ما تزال قابلة للسير، ولو أن عجلاتها تدوس على جراح السوريين ومعاناتهم. وربما تعود غبطة بيدرسون إلى اعتقاده بأن ( المونديال السابع للجنة الدستورية) سوف يشهد فصولاً مشوّقة وثرية بنتائجها المفاجئة للجمهور، نتيجة إدراج أجندة تتضمن ما يُدعى بمبادىء دستورية ( هوية الدولة – رموز الدولة – وظائف السلطات العامة – الحوكمة)، وعلى الرغم من حضور العناوين المذكورة في أغلب دساتير الدول، إلّا أن إدراجها في سياق التفاوض الراهن في الحالة السورية ينطوي على رغبة شديدة لدى الوسيط الدولي بفتح آفاق جديدة لمهامه الوظيفية من جهة، كما يتيح لنظام الأسد أشواطاً إضافية لماراتون بدأ منذ نهاية العام 2019 في سوتشي ، و ما يزال مجهول النتائج حتى الآن، لقد ارتأى بيدرسون أن يطرح كل طرف من الأطراف الثلاثة مبدءًا دستورياً أو اثنين في اليوم الواحد، ثم يتناوله الحضور بالنقاش والمباحثة، وفي اليوم الأخير يصار إلى جمع التقاطعات الحاصلة بين ما تم طرحه من أفكار، فإن تشابهت بعض الأفكار على لون العلم أو نشيد حماة الديار أو العملة النقدية أو اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة في الدولة، كان ذلك فتحاً كبيراً وانفراجةً عظمى للاستعصاء السياسي الحاصل، وإن لم يحصل ذلك، لا بأس من أن يلملم بيدرسون أوراقه ليحدث الجميع بأن الندوة البحثية التي امتدت لخمسة أيام، وإن لم تؤد إلى توافقات، إلّا أنها كانت غنية بطروحاتها العميقة وثريّة بتنوع الآراء وتعدد الأفكار، وربما – حينئذٍ – يخطر تساؤل لدى البعض: هل ثمة من همس بإذن بيدرسون وأبلغه بأن انتفاضة السوريين في آذار 2011 كان وراءها اختلاف السوريين على لون العلم والنشيد الوطني أو طبيعة العُملة؟
وفي موازاة حراك جنيف البحثي للفرقة الدستورية بقيادة بيدرسون، ثمة حراكٌ آخر في المشهد السوري يتزامن أيضاً مع الذكرى الحادية عشرة لانطلاقة الثورة، يتمحور حول قضية يراها السوريون في طليعة أولوياتهم، بل هي مبعث وجعهم جميعاً، اعني قضية المعتقلين الذين تتداعى شظايا معاناتهم لتطال معظم العائلات السورية التي ترى أن ما يؤلمها ويعزز من معاناتها هو وجود أكثر من مئة ألف ما بين معتقل ومُغيّب في سجون الأسد، وهؤلاء المعتقلون والمغيبون ليسوا ودائع أو أسرى حرب يحظون برعاية الصليب الأحمر الدولي، ويتمتعون بكل حقوق الأسير، بل يمكن القول : إن من تبقى منهم على قيد الحياة، ربما تمنى الموت سبيلاً للخلاص من جحيم السجون الأسدية. ومما لا شك فيه أن هؤلاء المعتقلين هم الخصم الأول بالنسبة إلى السلطة الأسدية، فهم الذين واجهوا صلفه وجبروته وهتفوا بملء أفواههم ضدّه، وهم الذيم كانوا وما يزالون روّاد الصف الأمامي في الثورة، ولعل هذا ما جعل نظام الأسد يرى أن السلاح الأقوى لمواجه الثورة هو الاعتقال والإمعان في التنكيل والتعذيب إلى درجة التوحّش.
ثمة – إذاً – حراكان سوريان متوازيان من حيث التوقيت، ولكنهما متباعدان من حيث المحتوى، أحدهما يُدار في أروقة فنادق جنيف، يقوم به أشخاص لا يتجاوز عددهم الخمسين، يدّعون تمثيل السوريين دون أن يكون لهذا الادعاء أدنى مقوّماته، وهم يؤدّون مهامّهم الوظيفية بكل تؤدة واسترخاء، فهم ليسوا على عجلة من أمرهم، بدليل أنهم ماضون في عملهم على أمد مفتوح، دون وجود أي إطار زمني محدد، إذ لقد انطوت ثلاث سنوات من عمر مسارهم الدستوري، و ما يزالون في طور التمهيد للدخول في صلب كتابة الدستور، و لئن افتتحوا خلال لقائهم السابع بالنقاش حول المبادئ الدستورية( البحثية) المذكورة آنفاً، فلربما احتاج كل مبدأ منها إلى سلسلة لقاءات أخرى، وذلك تطبيقاً للمبدأ الناظم لعملية التفاوض ( سنغرقهم بالتفاصيل). فيما يبدو أصحاب الحراك الثاني بمئات الآلاف، لا يجمعهم رواق واحد ولا يقودهم وسيط دولي، بل هم موزعون في كل أنحاء العالم، يلهجون بقضية واحدة تجمعهم، سواء من حيث وقفاتهم الاحتجاجية في الساحات العامة في الداخل وبلدان اللجوء، أو من خلال حملاتهم التي ينظمونها على وسائل التواصل المتعددة، أو من خلال البيانات والرسائل التي يجمعون عليها ما استطاعوا من التواقيع ليرسلوها إلى الجهات العالمية المختصة، ومما هو لافت في هذا السياق أن التمعّن في أولويات ومشاغل كل طرف على حدة، يوحي بأن الطرفين لا ينتميان إلى قضية واحدة، بل ربما يهجسان برؤيتين مختلفتين، ولئن كان من الصحيح أن قضية المعتقلين ليست عديمة الذكر أو الحضور في لقاءات اللجنة الدستورية، إلّا أن حضورها يتمثل بقراءة بند ضمن ورقة لا تستغرق قراءته أكثر من ثوان، ثم يتم تجاوزه إلى البنود أو النقاط التي تليه، أما حضور تلك القضية لدى أصحاب الحراك الشعبي فهو حضور وحيد لا يجوز تجاوزه ما لم تتم معالجته، بل هو وجع متعاظم ومتجدد، والقفز من فوقه أو تأجيله أو الالتفاف عليه يزيد من تداعياته ولا ينقص منها.
لا ترى المعارضة الرسمية أي جدوى من التمترس خلف قضية المعتقلين ، بل تؤكّد على الدوام أنها جرّبت ذلك منذ العام 2014 وتبين لها أن هذا السلوك (المتشدد) حيال هذه المسألة إنما يعيق أو يسهم في تعطيل عملية التفاوض، ويقول لهم آخرون: ماذا أنتجت عملية التفاوض منذ عام 2014 وحتى الآن؟ هل وفّر انخراطكم بل تماهيكم مع الأجندة الروسية دم مواطن سوري واحد، أو هل أعاد مُهجّراً واحداً إلى منزله؟ أم هل أسهم تغاضيكم عن قضية المعتقلين بجعل نظام الأسد أكثر تفاعلاً في عملية التفاوض؟ ويرى المعارضون الرسميون أن الاستمرار في عملية التفاوض ولو بدون جدوى هي السبيل لإبقاء القضية السورية حيّةً وذات ديمومة، ويقول آخرون: إن الحوامل الأنصع لقضية السوريين هي ذات أصل إنساني أخلاقي، وضحايا الاعتقال والتغييب والقتل الممنهج في السجون كانوا هم الكاشف الأبرز لوحشية السلطة الأسدية، وإن فشلتم في استثمار هذه القضية من الناحية السياسية، فلا تكونوا طرفاً في الإجهاز عليها.
المصدر: تلفزيون سوريا