ديانا رحيمة
تطال انتقادات مستمرة أعمال اللجنة الدستورية السورية في جنيف، انطلاقًا من حاجة السوريين إلى تغيير سياسي حقيقي ملموس على الأرض، يطيح أولًا بالنظام السوري ورئيسه، بشار الأسد، الذي يعد مسؤولًا عن تعذيب وقتل وتهجير قرابة نصف الشعب السوري، ثم الانتقال إلى تغيير دستوري يحقق مطالبه.
طُرحت اللجنة الدستورية لأول مرة في مؤتمر “الحوار السوري” الذي رعته روسيا بمدينة سوتشي، في تشرين الثاني 2018، وجاء في البيان الختامي أنه “تم الاتفاق على تأليف لجنة دستورية تتشكّل من وفد حكومة الجمهورية العربية السورية ووفد معارض واسع التمثيل، بغرض صياغة إصلاح دستوري يسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم (2254)”.
عقب ذلك، بدأت مفاوضات واعتراضات وعراقيل من قبل الطرفين، الأول هو المعارضة السورية، المتمثلة بـ”هيئة التفاوض العليا”، التي رفضت أن تكون مرجعية اللجنة مؤتمر “سوتشي”، وأن يترأس النظام اللجنة، وطلبت أن تكون مرجعيتها القرار الدولي “2254” تحت مظلة الأمم المتحدة في جنيف.
في حين وضع النظام السوري وحلفاؤه العراقيل في طريق تشكيل اللجنة، تارة في رفضه القواعد الإجرائية ونسبة التصويت، وتارة في الاعتراض على أسماء موجودة في قائمة المجتمع المدني التي شكّلتها الأمم المتحدة.
وبعد أكثر من عام ونصف من المفاوضات، وعقب ضغوط دولية لتشكيل اللجنة أو البحث عن بديل آخر، رضخ النظام السوري لضغوط حليفه الروسي، ووافق إلى جانب المعارضة على تشكيل اللجنة، التي عقدت إلى اليوم سبع جولات دون تحقيق أي تقدم في الحل السياسي.
تناقش عنب بلدي في هذا التقرير الانتقادات التي تستهجن سير العملية الدستورية في جنيف وحججها، ومن جانب آخر يشرح المحامي وعضو اللجنة الدستورية طارق الكردي، أهمية الدستور واستمرار سير العملية الدستورية وارتباطهما الوثيق بالتغيير والانتقال السياسي الذي يطمح إليه السوريون.
إطالة لكسب الوقت
المفكر وأستاذ علم الاجتماع السياسي المعاصر في جامعة “السوربون” الفرنسية برهان غليون، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن هدف تشكيل اللجنة الدستورية بالنسبة للنظام ليس صياغة الدستور، وهذا آخر اهتماماته، ولا معنى له من دون أي اتفاق سياسي أيضًا حول المخرج من الوضع الكارثي الراهن.
ويعتقد غليون أن الهدف من اللجنة الدستورية الالتفاف على المفاوضات التي قررها مجلس الأمن من أجل تنفيذ قرارته، وآخرها “2254”، الخاصة بالانتقال السياسي كحل وحيد للحرب التي ورّط فيها نظام الأسد وحلفاؤه البلاد، وأغلق أمامها كل أمل بالاستقرار والسلام والحياة.
ولذلك، لم يقدم النظام أي اقتراحات تساعد على التقدم ولو خطوة واحدة في أي مفاوضات، سواء في إطار “جنيف” أو في إطار “أستانة” أو اللجنة الدستورية، بحسب غليون، بل كان ما يهمه قتل الوقت بانتظار تغيير الوقائع على الأرض وجعل التسوية السياسية ذاتها من دون معنى ولا أي أرضية واقعية.
يعني ذلك، الحفاظ على الوضع القائم كما هو وتكريسه وشرعنته، بما فيه صرف النظر عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وعن ضحايا الاعتقال السياسي وعن ملايين المهجرين واللاجئين والمشردين، ثم تحقيق التغيير الديموغرافي وتغيير الوضع الجيوسياسي لسوريا ونزعها من محيطها العربي كليًا، لتكون جزءًا من مشروع السيطرة الإيرانية على المشرق من المتوسط إلى العراق.
كما قال العقيد المنشق عبد الجبار العكيدي، في مقال له بجريدة “المدن” الإلكترونية، إن الأضرار التي ألحقتها اللجنة الدستورية بأخذها القضية السورية بعيدًا عما تضمّنته القرارات الأممية، وخاصة القرار “2254”، كانت بالغة وشديدة الخطورة، لكن مع ذلك، تصرّ المعارضة على المضي قدمًا في مسارها تحت مبررات مختلفة.
وإذا كانت حاجة السوريين إلى دستور جديد حاجة واقعية وضرورية، فإن سياق ما يجري يجعل من مقولة “ضرورة كتابة دستور” كلام حق يُراد به باطل، بحسب العكيدي، ذلك أن كتابة الدستور كما ورد في القرار الأممي “2254” تأتي في مرحلة لاحقة لعملية إنشاء هيئة حكم انتقالي (وهي جوهر العملية السياسية)، وهذا ما أكد عليه بيان “جنيف-1″ والقرار “2118” اللذان ينصان على أن العملية السياسية تبدأ بإنشاء هيئة حكم انتقالي.
ومن جهته، أوضح مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، في حديث سابق إلى عنب بلدي، أن تعديل الدستور أو الإصلاحات التي تتحدث عنها اللجنة الدستورية لن يغيّرا شيئًا على أرض الواقع في سوريا، واعتبر أن المشكلة الأساسية تتجلى بتطبيق الدستور، وليست حول نص الدستور.
وأضاف العبد الله أن “من المؤسف اختزال العملية السياسية في سوريا بأكملها، وعملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، بمحادثات لتعديل الدستور فقط”، فالدستور السوري “ليس سيئًا”، لكنه يتضمّن بعض المواد التي تحتاج إلى التعديل، باعتبار أن أساسه مترجم من الدستور الفرنسي إلى حد كبير.
وتكمن نقطة ضعف المعارضة اليوم، بحسب العبد الله، بعدم اتخاذها قرار الانسحاب في وقت مناسب وسابق بكثير من هذا اليوم.
الكردي: أزمة نص وليست في التطبيق فقط
عضو اللجنة المصغرة في اللجنة الدستورية، المحامي طارق الكردي، قال في مقابلة مع عنب بلدي، إن عدم إحساس السوريين بأهمية الدستور، يأتي من عدم معاصرتهم لدستور محترم سوى في فترة الخمسينيات، في زمن الوحدة وما تلاها من انقلابات لحزب “البعث” وصولًا إلى تسلّم الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، السلطة بدستور عام 1997 ودستور 2012.
وأكد كردي تفهّم السوريين الذين دفعوا أثمانًا كبيرة خلال الثورة، وعدم اقتناعهم بأن تضحياتهم هي مقابل وجود خمس أو عشر ورقات تحت مسمى دستور، لكن من الناحية القانونية، لا يمكن اختصار مشكلات السوريين في سوريا بالمشكلة الدستورية، بحسب الكردي، ولكن مشكلة الدستور هي مشكلة أساسية فيها لأن حافظ الأسد كبّل سوريا في دستور 1973 وحصل على صلاحيات شبه إلهية، واستنسخ الدستور نفسه إلى دستور 2012.
وبحسب الكردي، يستلزم تأسيس أي دولة أن يوضع القانون الأساسي لها (الدستور)، ويجب أن يوضع في شكله وعلاقته بالمجتمع وضمان السلطات وفصلها.
وعندما يبدأ الحل السياسي والانتقال السياسي، وبتأسيس هيئة حكم انتقالي لا يمكن استخدام دستور 2012، لأنه لن يفيد بشيء، فمشكلة السوريين والأزمة الأساسية تنبثق من الدستور وصلاحيات الرئيس ونظامه.
والحاجة هنا تكون أكبر إلى أحكام انتقالية ضمن مشروع الدستور الجديد، والتي يمكن أن تطبق في أثناء الفترة الانتقالية حتى تكون الناظمة لهذه المرحلة، بحسب الكردي، الذي أوضح أن الدستور السوري من النص نفسه ومن تطبيقه، وقبل وضع ضمانات للتأكد من تطبيق الدستور المقبل يجب أن يصحح النص.
ويعتبر كثيرون أن اللجنة الدستورية قفزت عن القرار “2254” وتراتبيته التي تتحدث عن انتقال سياسي، ثم بيئة آمنة وهادئة ومحايدة ومن ثم دستور وانتخابات.
ويرى الكردي أن العملية الدستورية اليوم هي في مرحلة المفاوضات، ويمكن فيها البدء بأي سلة من السلال هذه، ولكن عندما يأتي التنفيذ يجب أن يكون كما ذكره القرار، ليس من باب التمسك بالقرار بل لأن التراتبية منطقية.
أبواب الدستور
عندما بدأ الاتفاق على جدول أعمال اللجنة، كانت شجرة الدستور هي المرجع الأول لأعضاء اللجنة، والتي تبدأ بالمقدمة، ثم باب المبادئ الأساسية، ليأتي بعدها باب الحقوق والحريات، يليه باب سيادة القانون، ثم يوجد هدف بوضع باب للهيئات العامة المستقلة، وصولًا إلى السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن ثم المحكمة الدستورية، وصولًا إلى الأحكام الختامية.
ولفت الكردي إلى أن مادة في القواعد الإجرائية تقول إن عدم الاتفاق على شيء لا يعني التوقف عنده، كما توجد منهجية خاصة بالمبادئ تُناقش فيها، وعند الانتهاء منها يجري الانتقال إلى الباب الثاني المتعلق بالحقوق والحريات.
والهدف من باب الهيئات العامة المستقلة أن يجعل الدستور الجديد في سوريا يلحظ السنوات الـ12 التي عاشها السوريون، بحسب الكردي.
واعتبر الكردي أن الحاجة إلى هيئة عامة مستقلة للعدالة الانتقالية يجب أن تكون بنص دستوري وليس بقرار حكومي، وأن تكون مؤسسة دستورية وهيئة عامة ومستقلة، لتتمكّن من كشف الحقيقة وجبر الضرر وتقديم التعويضات وتخليد الذكرى، وهي إحدى وسائل ضمان عدم تكرار ما جرى سابقًا في المستقبل.
كما ستعمل اللجنة الدستورية للوصول إلى هيئة عامة مستقلة لحقوق الإنسان مهمتها من شقين، الأول معرفة مصير المفقودين والمعتقلين خلال الفترات الماضية في سوريا أي في الثورة وما قبلها، وتسليم الجثامين إلى أهلهم والتعويضات، أما الشق الثاني فيتعلق بحماية حقوق الإنسان في المستقبل لحماية حقوق السوريين.
وأكد الكردي أن موضوع المحاسبة والمساءلة هو من أولويات اللجنة، فهو هدف استراتيجي، إذ لا يمكن أن يكون هنالك سلام من دون عدالة.
وسيكون للعدالة الانتقالية فصل خاص في الدستور، وستقدم في الوقت المناسب، بحسب الكردي.
وعن احتمالية إسهام المسار ذاته بتحقيق الانتقال السياسي المنشود، أو أن الدستور الجديد يتطلب انتقالًا سياسيًا قبله ليصبح قابلًا للتطبيق، قال الرئيس المشترك للجنة الدستورية، هادي البحرة، في حديث سابق لعنب بلدي، إن “مسار اللجنة الدستورية هو واحد من السلال الأربع الرئيسة في القرار (2254)”.
وأوضح أن أغلبية الناس “تخلط بين المرحلة الانتقالية التي تبدأ عند توقيع الاتفاق السياسي لتنفيذ القرار (2254) بسلاله الأربع، وأول خطوة تنفذ منه هي إقامة هيئة الحكم الانتقالي ومهمتها الوحيدة هي تحقيق البيئة الآمنة والمحايدة التي يمكن أن تجري خلالها عملية الانتقال السياسي، وبين صياغة مشروع الدستور الجديد والاستفتاء عليه بعد تحقيق البيئة الآمنة والمحايدة، وهي أول خطوة في تنفيذ الانتقال السياسي والناظمة لبقية خطواته، حيث تجري وفقها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بإشراف الأمم المتحدة، وبإتمام تلك الانتخابات وتشكيل الحكومة وممارستها لسلطاتها تكون عملية الانتقال السياسي قد تمت”.
وكانت اللجنة الدستورية السورية اختتمت أعمال الجولة السابعة في جنيف، دون حدوث مؤتمر ختامي في 25 من آذار الماضي.
وقال المبعوث الأممي، غير بيدرسون، في بيان، “قدمت جميع الوفود بعض التعديلات على بعض النصوص المقدمة، كمحاولة لعكس مضمون المناقشات وتضييق الخلافات، بينما لم يتضمّن بعضها الآخر أي تغييرات”.
وأضاف أنه “بعد عامين ونصف من إطلاق اللجنة الدستورية، وهو حدث استغرق ما يقرب من عامين لتحقيقه، هناك حاجة واضحة لتجسيد هذا الالتزام في عمل اللجنة، بحيث تبدأ القضايا الموضوعية بالظهور، لتبدأ اللجنة بالتحرك بشكل جوهري إلى الأمام بشأن ولايتها لإعداد وصياغة إصلاح دستوري للموافقة الشعبية”.
وستُعقد الدورتان الثامنة والتاسعة للجنة في أيار الحالي وحزيران المقبل، بحسب ما صرح به المكتب الصحفي للمبعوث الأممي في حديث سابق إلى عنب بلدي.
المصدر: عنب بلدي