محمود الوهب
الطائفية ظاهرة فكرية وسياسية بآن معاً! جوهرها السياسة، وخدمة مصالحها، وظاهرها منظومة ثقافية وفكرية تصبّ في صالح تلك السياسة وتبرِّر نهجها وأفعالها وتسيُّد قادتها. وهي ظاهرة طبيعية يفرضها سياق تطور حياة الناس، وتبدل أنماط عيشهم، وتباين المصالح فيما بينهم حدَّ التناقض، وغالباً ما تأتي أفكار الطائفة المستحدثة تنويعاً على إيديولوجيا قائمة أو فكر سائد يحملها أفراد أو جماعات من النخب.
والطائفية في وعينا ملازمة للفكر الديني إذ نجدها في الأديان كافة.. وغالباً ما تترسخ عبر صراع ينطوي على مصالح فئوية قد تقود إلى معارك واقتتال.. ويرصد التاريخ الكثير من تلك الأحداث نشأت بين طرفين أو أكثر في مجتمع واحد يسوده دين واحد.. والطائفية في واقعنا الحالي هي رداء يرتديه السياسيون الطامعون في مكانة ما (حكم أو سيادة)، فتأتي الطائفة رافعة لها.. وتبنّيها في جوهره حال استبدادية ولا فرق إن كانت الطائفة أقلية أو أكثرية، وتجد أحياناً في الطائفة الواحدة الكثير من التفرعات، غير المتأصلة، يتبناها روّاد ويتبعها مريدون.. وتغلب الحال الشعبوية على أمثالها.. وفي العموم تنتمي الطائفية إلى المجتمعات المنغلقة.. وقد تجاوزتها الدولة الحديثة التي تعتمد حرية المواطن الفرد وحقوق الإنسان أساساً لتكوُّن المجتمعات الحديثة، وتماسكها، ولوحدة كيان الدولة..
طائفة جديدة على هامش الطائفة العلوية
كلَّما تقادم الزمن على الطائفة الحديثة غدت ديناً أو بحكم الدين اعتقاداً وتقديساً.. ويبقى استغلال الطائفية للسياسة نسغ حياة واستمرار. وتنطوي في ثناياها على مصالح محددة ينهض بها في البداية شخص ما أو مجموعة من الأشخاص لتأخذ فيما بعد بالاتساع فتشمل مجتمعاً ما صغيراً أو كبيراً.
وقد شهدت سورية في ثلاثينيات القرن الماضي نشوء طائفة جديدة في الساحل السوري على هامش الطائفة العلوية، أسسها شاب اتصف بالنباهة المبكرة، وإن يكن تعليمه متواضعاً، اسمه “سليمان المرشد” من قرية جوبة برغال (1907- 1946) الذي لفت الأنظار إليه عام 1923 وعمره ستة عشر عاماً عندما بشّر بقرب ظهور المهدي لـ “يملأ الأرض عدلًا وأمناً” ودعا إلى إلغاء الكثير من العادات التي تمس سيطرة بعض مشايخ العلويين على أتباعهم. وغدا في النصف الثاني من الثلاثينيات نائباً في المجلس النيابي السوري عن العلويين، اعتُقِل مع مجموعة من أتباعه، وأُعدم شنقاً في كانون الأول سنة 1946. (ثمة غموض في أمر إعدامه، وفيما وجه إليه من تهم) وخلفه ابنه “مجيب” (1930 – 1952) الذي قام بطرح المرشدية ديناً جديداً متمايزاً عن الطائفة العلوية. بأطر فكرية مختلفة نسبياً عن العلوية، ووضع نظاماً صارماً، وكوَّن مذهباً جديداً شديد التماسك، واتخذ اسمه قيمة قدسية لدى أتباعه. وقد اغتيل على يد قائد الشرطة العسكرية، عبد الحق شحادة 27/11/1952. وبعد اغتياله، استلم قيادة الطائفة أخوه ساجي المرشد (1931 – 1998) الذي عُدّ زعيماً وإماماً للمرشدية.. (درس الباحث جمال باروت ظاهرة المرشدية في كتابه شعاع قبل الفجر/ مذكرات أحمد نهاد السياف..) وفي عهد حافظ الأسد رعى أخوه “رفعت” الطائفة المرشدية ضمن منظومته العسكرية المعروفة بـ: “سرايا الدفاع” وقد اشتهر من بينها زمن بشار الأسد ضابط المخابرات “بهجت سليمان” الذي طرد من الأردن لتجاوزه حدود وظيفته (سفيراً لسورية).. يقدر عدد المرشديين اليوم ما بين 150 إلى 250 ألف نسمة.
مجتمع منغلق على ذاته!
ويلاحظ من هذه التجربة أن التخلف العام وما ينتجه من فقر وجهل يكون مرتعاً خصباً لنمو الأفكار البعيدة عن الواقع وبالتالي الظواهر الطائفية التي تنطوي في الوقت نفسه، على مصالح سياسية وزعامات في مواطنها.. والطائفية، في واقعنا، مجتمع منغلق على ذاته وخاصة في مجتمعات لا تعرف الحرية السياسية إليها سبيلًا..
وعلى الرغم من أن الاستعمار الفرنسي قد اشتغل على موجة الطائفية إلا أنه فشل، تحت تأثير الثورات السورية الأولى ضد الانتداب الفرنسي التي أكدت وحدة سورية.. لكنَّها عادت لتنمو بقوة على زمن حافظ الأسد، ولتمسك بمفاصل الدولة الرئيسة، رغم كل ما كان معلناً عن علمانية الدولة وزعمها محاربة الطائفية، وسعيه لوجود برجوازية في الساحل السوري تضاهي ما هو موجود في كل من دمشق وحلب (بحسب باتريك سيل/حافظ الأسد الصراع على الشرق الأوسط) وقد نشأت بالفعل لكنها جاءت طفيلية تعيَّشت على قطاع الدولة الذي فتح لها أبوابه ونوافذه، وقروض مصارفه، فانصرفت إلى الربح التجاري السريع إن في العقارات أو في أخذ وكالات حصرية لشركات أجنبية، وبسبب نشاطها الطفيلي هذا، عمَّ الفساد مفاصل الدولة مؤدياً إلى خساراته، وبالتالي إلى عجز الدولة عن متابعة التنمية ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة وانسداد الأفق أمام الخريجين، رافق ذلك تراجع كبير في القطاعات الحكومية الخدمية كالصحة والتعليم والمواصلات والنقل الداخلي ونقص في السلع الاستهلاكية الضرورية، وعجز في الطاقة الكهربائية.. إلخ.
بعد التوريث حاول بشار الإصلاح، أو قال به، ولكن دون تنفيذ أية خطوة حقيقية فالإصلاح يبدأ بالحريات السياسية، وهذه مستحيلة في نظام استبدادي يؤمن بملكيته الخاصة للدولة والشعب.. وهكذا كان الانفجار العفوي عام 2011 وقد قاده جيل واع من جيل الشباب، لديه أحلام زاهية في الحرية وغايتها الارتقاء بسورية وشعبها، لكن تلك البرجوازية الطفيلية النهَّابة أججت لدى التصدي لتلك الأحلام الشبابية المسالمة الروح الطائفية حفاظًا على مكاسبها، ولتطوى بالعنف تلك الأحلام، وإن إلى حين..!
مجتمعات لا تنسج مع روح العصر!
ويبقى تأكيد فكرة أن الطائفية تعود، كما مرَّ، إلى مجتمعات لم يعد بنيانها ينسجم مع روح العصر وقوانينه، أما التخلص من تأثيرها فلا يكون إلا بالتنمية الشاملة التي مفتاحها الرئيس وجود حريات سياسية تفسح في المجال للتشاركية الفعلية.. وهذا يرتب على نخب الشعب السوري بتلويناتها كافة، وبأطيافها السياسية والفكرية والاجتماعية العمل على توحيد صفوفها وفق خطاب وطني سوري جامع غير إقصائي.. خطاب يوجه إلى المجتمع الدولي بهدف استعادة سورية موحدة أرضاً وشعباً وفق القرار 2254. ووطناً مستقلاً يقوم على أسس من الحرية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة التامة..
المصدر: أورينت نت