غازي دحمان
السؤال بعد انقشاع غبار القمم التي شهدتها المنطقة: ما الهدف من انعقاد هذه القمم، التي كشفت مخرجاتها أنه كان في الوسع إجراؤها في إطار مستوياتٍ أدنى من الرؤساء، حتى إن لجاناً فنية كان يمكنها الوصول إلى النتائج نفسها، ولكن بضماناتٍ تنفيذية أكبر؟ ألم يكن بالإمكان استبدال البيانات الرنانة، التي لم تأت بجديد، بتصريحاتٍ لمسؤولين برتب أصغر، ألم يكن ذلك أكثر إكراماً للمنظومة الشرق أوسطية، بل للنظام الدولي الحالي!
استقبلت طهران قمة زعماء مناكفة الغرب، وعينها، وعيون ضيوفها، على واشنطن. لم تكن القمة سوى شكل من التحرّش بواشنطن لم يجد عاقدوها سوى هذه الطريقة، لإيصال مطالبهم لها، ثلاثتهم، إيران وروسيا وتركيا، يقفون على خط الانطلاق صوب مفاوضاتٍ ترفض واشنطن فتح بابها في هذه اللحظة، وترفض إجراء التسويات المطلوبة إلا وفق شروطها، أو لتقديرها أن الظروف لم تنضُج بعد، ما دامت الأطراف الأخرى غارقةً في الأزمة، وتحاول كتم ألامها إلى حين.
لم تكن سورية سوى الذريعة للقاء طهران، فمعلوم أن الأمور دخلت مرحلة الستاتيكو منذ زمن، ووضعت أطراف اللعبة، موسكو وطهران وأنقرة، قواعد وقوانين إدارة هذا الستاتيكو، ولن تؤثر في هذه الوضع محاولات تركيا إجراء تغيير بسيط في خريطة السيطرة، ضمن مناطق منبج وتل رفعت، لا تقع بالأصل ضمن النفوذين الروسي والإيراني. واللافت أنه على الرغم من تركيز البيان الختامي على الوضع في سورية إلا أن الأطراف بقيت على مواقفها من العملية التركية؛ فلا تركيا تراجعت عن القيام بالعملية ولا روسيا وإيران تراجعتا عن رفضهما العملية التركية!
والمفارقة، أيضاً، أن النتيجة الوحيدة العملانية التي تمخّضت عنها اجتماعات بوتين أردوغان كانت سماح روسيا لأوكرانيا بتصدير المواد الغذائية المحاصرة في موانئ البحر الأسود، وهي خطوةٌ أرادت منها روسيا فتح ثغرةٍ في باب التفاوض مع الغرب، ما يعني أن روسيا استثمرت قمة طهران، لإيصال رسالة إلى الغرب عن طريق تركيا .. أين الشرق الأوسط من ذلك كله؟
وكانت قمة جدة قد انتهت إلى بيانٍ ليس له طعم التحالفات، ولا يحمل نكهة الاستقطابات، فلماذا أجهد بايدن الثمانيني نفسه للحضور إلى المنطقة، ولم يحقق حتى أدنى مطالبه الملحّة التي تتمثل بزيادة تصدير نفط المنطقة لامتصاص غضب الناخب الأميركي، من ارتفاع أسعار البنزين، قبل الانتخابات النصفية لتجديد الكونغرس، وكل ما جرى إنجازه في هذه القمة بيان ختامي يدعو، مجرّد دعوة، إلى الحفاظ على المعادلات القائمة في المنطقة، ورفض محاولات التأثير على الاستقرار “الهش” الذي هو في الأصل ناتجٌ من توافقات وتفاهمات بينية إقليمية، وليس بحاجة لحضور الرئيس الأميركي.
في قمة جدة أيضاً كانت عيون الحاضرين صوب أميركا، لكن ليست أميركا جو بايدن، بل أميركا التي ستأتي بعد أول انتخابات رئاسية أميركية، وكأن عهد بايدن قد استنفد أدواته وإمكاناته، ليس بسبب سن الرجل، بل لأن أميركا، وحتى قبل عهده، تنتظر وصول إدارة أكثر إبداعاً من الإدارات السابقة التي لم تفعل شيئا طوال العقود الأخيرة سوى الفرجة على صعود الصين إلى مركز القوّة الأولى عالمياً، وربما انتظار هذا الوصول، رغم ما تبديه تلك الإدارات من ممانعة، لتسليمها قيادة العالم الذي أتعب أميركا والأميركيين، لكن لا الصين وصلت أو ستصل إلى هذا المركز، ولا الأميركيون اجترحوا أدوات ورؤى جديدة لقيادة العالم.
لم تنتج قمتا جدة وطهران أي معطياتٍ جديدة يمكن البناء عليها لصنع مساراتٍ جديدة في السياسات الإقليمية والدولية، لا هياكل ولا أطر أمنية وعسكرية وسياسية جرى التوافق عليها، ولا مؤشّرات عن توافقات وتسويات فيما يخص أكبر قضيتين متفجرتين في الشرق الأوسط، الفلسطينية والسورية، حيث لا ترتيبات جديدة بخصوص عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية المجمدة، بل أعلنت قمّة جدة رسميا موت القضية الفلسطينية، بوصفها محرّكاً للسياسات العربية، فيما دفنت قمّة طهران القضية السورية، وشرعنت التقسيم الحاصل بحكم الأمر الواقع!
إذاً، ما الداعي لانعقاد هذه القمم على أرض الشرق الأوسط؟ ثمّة ما يلفت الانتباه في التوازنات الدولية الحاصلة في هذه اللحظة؛ فأوروبا باتت منحازةً كليّة لجانب واشنطن. أما آسيا، فتكاد التوازنات تكون فيها متساوية، حيث تتعاطف الصين والهند مع روسيا فيما تتبع اليابان وكوريا النسق الغربي، وقد أثبتت الحرب الأوكرانية اهتمام الفاعلين الدوليين بهاتين المنطقتين بدرجةٍ كبيرة. إما لتعزيز التوازنات أو خلخلتها وإعادة بنائها على ضوء تغيير المعادلات لصالح واشنطن وموسكو أو ضدّهما.
ظلت منطقة الشرق الأوسط خارج هذه المعادلات، فلا واشنطن بقيت حارسة لحراكاتها وضابطة لتفاعلاتها، ولا موسكو، بقدراتها التكنولوجية والمالية المتواضعة استطاعت إغواء هذه المنطقة للانضواء تحت تبعيّتها، حتى لو أرادت هذه الدول، فإن موسكو لا تملك الأدوات اللازمة للقيام بهذا الفعل، كما أن المنطقة نفسها لم تستطع التوصل إلى صيغ توافقية وتسويات دائمة تؤهلها لتشكيل منظومة، أو شبه منظومة، قادرة على الاكتفاء أمنياً وسياسياً بدون مساعدة الآخرين على احتواء أزماتها.
قمّتا جدة وطهران هما التعبير الأكثر دلالة عن منطقةٍ تعيش على حافة الفراغ، وتتعيش أنظمتها على الخلافات، التي لم يعد أحد يعرف مصادرها، بهذا المعنى، فهذه المنطقة تصلح لأن تكون منابر للفاعلين الدوليين، ليقولوا من خلالها ما يرغبون بقوله لبعضهم، من دون أن يترتب على ذلك أية التزامات على هؤلاء الفاعلين تجاه هذه المنطقة التي تشدّ الرحال إلى مساراتٍ مجهولة.
المصدر: العربي الجديد