توفيق علي
يستدعي الهوية اليمنية القديمة في مواجهة الهوية الحوثية المستمدة من إيران. حيث امتدت انبعاثات الحرب اليمنية إلى كل النواحي والاتجاهات، لتتعدى مبارزة الغلبة التقليدية بالمدفعية والرشاش إلى الصراع الفكري الذي يدفع المراقب للشأن اليمني باتجاه إعادة تعريف جذر المشكلة وأبعادها المختلفة.
وأخيراً، لفتت الانتباه تلك التفاعلات الفكرية التي تصدر من تيار “الأقيال” الذي يستدعي في تسميته الهوية اليمنية القديمة، إذ بلغت مستويات جريئة بالخوض في ما كان يعتبر “مقدساً”، كاشفة عن مرحلة جديدة من صور الصراع الذي ظل خامداً عقوداً طويلة، في ملمح يشي بتغيرات فكرية مقبلة.
“اصطفانا الله”
وبسيطرة ميليشيات الحوثي على العاصمة صنعاء في عام 2014 وانطلاقهم نحو بقية المحافظات استعاد اليمنيون تداول مصطلح “الهاشمية” وصعودها من قاع النسيان، حيث ظلت هناك لما يقارب من نصف قرن بفعل انتهاء حكم الأئمة بعيد ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 وقيام النظام الجمهوري الذي يجرم تفضيل سلالة أو أسرة على سواها.
والمصطلح الذي يتداول اليوم بكثير من الإدانة يشير إلى من ينتمون إلى من يقال إنهم من ذرية هواشم مكة: “الحسن” و”الحسين” أبناء الصحابي علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة ابنة النبي محمد، أو ما يعرف اصطلاحاً بـ”آل البيت”، وهو النسب الذي يدعي عبد الملك الحوثي وأخوه ووالده من قبله، انتسابهم له، وترتب عليه، وفقاً للسردية الحوثية، “اصطفاءً شرعياً أمر به الله والدين”. ولهذا بات على المسلمين، برأيهم، إعلان “الولاية” لهم، باعتبار ذلك “حقاً إلهياً”، و”اصطفاءً” سماوياً لا تتورع الميليشيات عن إهراق دماء اليمنيين في سبيل الوصول إليه وتكريسه منهجاً في حياة الناس.
استدعاء التاريخ
من هنا ظهرت استدعاءات تاريخية للهويات اليمنية القديمة يقودها قطاع واسع من الناشطين والمثقفين والإعلاميين وأبرزها “حركة القومية اليمنية أقيال” التي ظهرت في عام 2017 كتعبير جمعي رافض لممارسات الحوثيين وانقلابهم وغزوهم المدن وقتل اليمنيين والتنكيل بهم، بحجة الأحقية والاصطفاء التي اعتبروها “هويات سلالية دموية دخيلة مدعومة من النظام الإيراني”، أسستها مجموعة من الكتاب والإعلاميين والنشطاء المقيمين خارج اليمن، وتهدف إلى “مواجهة الهاشمية السياسية التي تسعى إلى السيطرة على اليمن وإسقاط الجمهورية”. ويقول مؤسسوها إنها لا تتبع أي جهة سياسية أو دينية، ومن أبرز النشطاء فيها محمد المقبلي ووضحى مرشد وهمدان العليي وكامل الخوداني وعبد الله إسماعيل وغيرهم.
ما هو؟
والقيل مصطلح قديم يشير إلى أبناء وأحفاد الملوك من الممالك اليمنية التاريخية المذكورة في القرآن أمثال مملكة سبأ وقوم تبع، ذوي الصلاحيات الكبرى. ويعني الأعظم ومن له المشورة والكلمة الأولى في الحديث، وهو ابن الملك. وجمعها أقيال، أي أبناء الملوك.
والأقيال ضمن أهدافهم يدعون إلى إعادة إحياء مفهوم الهوية اليمنية وتجريم الهاشمية السياسية والمجابهة الفكرية والثقافية للمشروع العنصري الطائفي الذي أخرج اليمن جبراً من إرادة معظم أبنائه.
كما تسعى الحركة إلى “تأسيس الدولة الديمقراطية العلمانية بمضامينها الحديثة استناداً إلى أن لليمن هويته وشخصيته التاريخية المستقلة التي ميزت مجتمعه المدني منذ خمسة آلاف عام والعمل على تضمين الدستور القادم مواد تنص صراحة على تجريم الإمامة والهاشمية السياسية فكراً وممارسة وكل أشكال توظيف وخلط الدين في السياسة”.
استنهاض حضاري
وفي محاولة لقراءة مقربة عن هذا التيار. يقول أحد مؤسسيه، محمد المقبلي، إن “الأقيال مشروع استنهاض حضاري جاء بعد أن تعرض الكيان اليمني لتهديد وجودي، من قبل المشروع الفارسي ممثلاً بأداته الحوثية، في أهم ركيزتين أساسيتين ممثلتين بالوطنية الدستورية الجمهورية والعربية”. وأضاف “ولكون الحوثي مشروعاً سلالياً إيرانياً دخيلاً انطلق هذا الكيان القومي كشكل من أشكال المقاومة باعتبار الأقيال متصلين بهويتهم اليمنية وبعمقهم العربي”.
تعبير شعبي
وإزاء من يعتبر التيار مكافئاً للحوثية، ذكر المقبلي أنه “يمكن القول إن التيار تعبير شعبي أمام محاولة التهديد الواضحة والإلغاء الشامل للذات اليمنية، من خلال إحلال السلالة بديلة للشعب وجعله راعياً لها وإحلال الإمامة الهاشمية بديلاً للجمهورية، والروابط السلالية بديلة للروابط القانونية، ولهذا فالأقيال من أعظم تجليات الثورات الإنسانية التي يخوضونها ضد الكهنوت الوظيفي الذي يعمل كذراع لأطماع إيرانية لتهديد اليمن ومحيطه الخليجي والعربي”. وأضاف “يمكن أن يكون هذا التيار هو الحامل الفكري لمشروع استعادة الدولة الذي لا يمثل فقط النقيض من التوجه الفكري الحوثي الإيراني وإنما يمثل النقيض الفكر السني ممثلاً بتنظيم القاعدة”.
مقاومة فكرية
وعن مدى التأثير الفكري الذي يتوقعون تركه، يرى المقبلي أنه “نجح وخصوصاً بين الطلائع الشابة التي التقطت حاجة الشعب إلى المقاومة الفكرية، بخاصة أن الأقيال عرفوا من أين تؤكل كتف المشروع الحوثي من خلال عملية التثقيف الممتدة التي تصدوا لها بتحصين الشعب فكرياً بجهود ذاتية كمشروع جماهيري ينمو ويتوسع كل يوم”.
رفض مقابل
في المقابل، لوحظت حالة السخط التي قوبل بها نشاط “الأقيال” ليس من الحوثيين وحدهم، ولكن من تيارات سياسية ودينية أخرى اعتبرت أن ما يروجون له دخيل وينافي الثوابت الدينية والأخلاقية، خصوصاً وقد تناول بعض من ينتسب إلى هذا التيار كتابات وأطروحات تقلل من بعض المرويات والنصوص الدينية المختلف بشأنها كأحاديث الولاية أو تلك التي تفضل طائفة على أخرى.
وتقول الناشطة الموالية لـ”الأقيال”، هنا محمد، إن “هناك مغالطات يروجها المنزعجون من هذا الانبعاث الفكري والسياسي الكبير للذات اليمنية بمحاولة حشر بعض ثوابت الشعب اليمني كالعروبة والإسلام في النيل من هذا الحراك الذي تقوده طلائع من اليمنيين أكدوا مراراً أن معركتهم مع الإمامة الهاشمية، ولن ينجروا إلى معارك جانبية، خصوصاً مع من يؤمنون باليمن الجمهوري”.
ولهذا تعتبر الناشطة أن حراكهم “لم يأت من فراغ وإنما أسس للبناء على تراكمات القومية اليمنية عبر التاريخ من الرواد الأوائل لهذه الأمة من ثوار ومصلحين شوهت الإمامة الهاشمية رمزياتهم وتاريخهم”. وتخلص إلى أن “لا مخرج لليمن مما هو فيه إلا بالعودة إلى إحياء روح القومية اليمنية داخل كل يمني حر لا يقبل العبودية الكهنوتية الحوثية”.
انفعال غير مؤقت
من ناحية ثانية، يعتبر البعض أن هذا التيار يأتي ضمن التفاعلات الشعبية الرافضة كظاهرة وقتية انفعالية وكرد فعل على الانقلاب الحوثي وما تبعه من حرب دامية قتلت الآلاف وشردت الملايين ستتلاشى مع الزمن. ويقول أحد النشطاء البارزين في التيار الجديد، الإعلامي عبد الله إسماعيل، إن “الأقيال حراك مستمر له امتداد كبير يتلقاه اليمنيون بكثير من التفاعل الإيجابي وأصبحت مفردته هي الأكثر قبولاً والأكثر افتخاراً بين عامة الناس”. ويضيف “الأقيال اليوم يؤسسون لرؤية كبيرة في المستقبل أساسها أنهم يؤمنون بالدولة الوطنية وبمفهوم الدولة، متساوون أمام القانون وفي الحقوق والواجبات”.
حراك يستدعي أمة
وأمام من اعتبر هذا الحراك معادلاً فكرياً للحوثيين ومشروعهم القائم على الاصطفاء والحق الإلهي، رأى إسماعيل أنه “لا يجوز مساواة الأقيال كمعادل فكري للهاشمية السياسية أو المشروع السلالي والامتداد الإمامي، باعتباره حراكاً جمعياً عاماً يستدعي أمة في مقابل حراك عرقي دموي يستند إلى محاولة التمييز السلالي أو محاولة فرض الخيرية المزعومة”. وأضاف “نحن أمام أمة يمنية يسعى حراك الأقيال إلى لملمتها تحت الثوابت الوطنية، في مقابل حركة عرقية لا بد أن تنتهي حربها ضد اليمنيين التي استمرت في محاولات التنمر، إذا صح التعبير، على مدى 1300 عام”.
وتابع “لهذا فحراك الأقيال يريد أن يصل باليمنيين إلى هذه اللحمة تحت ثوابت وطنية تنبذ كل العنصريات والعرقيات وكل الافتخار بما سوى اليمن”.
مواجهة التقزيم
وفي تلميح تاريخي، يتطرق إسماعيل إلى أن الهدف الأساسي “للأئمة والسلالة العنصرية الحوثية هو تقزيم الإنسان اليمني والتقليل من تاريخه وهويته، بالتالي فجزء من أهداف هذا الحراك استدعاء الهوية والقيمة الحضارية سواء أكانت قبل الإسلام أو بعده، والتي تحاول مجموعة الحوثي وإيران فرض خرافتهم بما يطلقون عليه الهوية الإيمانية التي تحاول فرض الرؤية الإيرانية لمفهوم الدين ومفهوم المرشد الأعلى ومفهوم سيطرة هذه الأقلية على مصائر اليمنيين”.
وخلص إلى القول إن “حراك الأقيال لا يمكن أن يقبل بمفهوم مشروع الإمامة ولن يسمح له بالاستمرار، والعودة إليه بهذا الشكل الذي حصل. ويسعى إلى أن تكون هذه آخر معاركه مع المشروع السلالي بالتالي ليس هناك منطقة وسطى في حراك الأقيال فإما أن تكون يمنياً أو غير ذلك”.
شعار الأقيال
واختارت حركة الأقيال الوعل شعاراً لها، في دلالة للرمزية التاريخية التي يحملها في ذاكرة اليمنيين، فهو يمثل إله المطر والصواعق والخصب والإنماء عند اليمنيين القدامى ولهذا وجد على الرسوم الصخرية منذ فترة العصر الحجري الحديث وحتى عهد قيام ممالك اليمن القديم.
كما اختاره اليمنيون القدامى شعاراً لدولهم المتعاقبة، ونُقش في كثير من النقوش والآثار والتماثيل والعملات النقدية.
عنصرية وأقلية
واعتبر منتقدو النهج العام الذي يستدعيه هذا التيار أن “الأقيال”، من وجهة نظرهم، يقابلون العنصرية الحوثية بعنصرية مماثلة وتعصب مواز.
ووفق الكاتب عبد الرحمن أنيس، أحد المعترضين على الحركة، فإن “الهاشمية السياسية غير مقبولة، ولا يمكن لأحد أن يقر بأن دين الإسلام العظيم جاء ليحصر الحكم في سلالة معينة، لكن في المقابل لا يمكن مواجهة أي دعوة عنصرية بعنصرية مضادة”.
ومن وجهة نظر أنيس فإن “خطأ الأقيال ليس في كونهم يتبنون فكرة القومية اليمنية، ولكنه في عدم التفريق بين الهاشمية السياسية والهاشمي العادي، ويستعدونهم حتى لو كان مناهضاً للحوثي، الأمر الذي قد يستغله الحوثيون لتقديم أنفسهم كحماة للأقلية الهاشمية في اليمن باعتبارها تواجه تمييزاً عرقياً ضدها”. وأضاف في الخلاصة أنه إزاء ذلك “من المهم نبذ فكرة الاستعلاء الهاشمي لكن هذا يقابل بتعزيز الوعي الوطني بأن كل المواطنين متساوون كأسنان المشط، أما الخطاب الموجه ضد كل يمني من أصول هاشمية فهذا لا يعدو كونه أكثر من خطاب كراهية يفرق ولا يجمع”.
المصدر: اندبندنت عربية