ضياء عودة
ما يزال “جدل التطبيع” بين أنقرة والنظام السوري يأخذ الحيز الأكبر من دائرة التغطية الصحفية لوسائل الإعلام المقربة من الحكومة التركية أو المعارضة، فيما توسعت الدائرة، خلال الأيام الماضية، ليدخل سياسيون في أحزاب مختلفة على الخط، مبدين موقفا إزاء ذاك الذي فجّره الوزير، مولود جاويش أوغلو، قبل أسبوع.
وحتى الآن لا توجد أي مؤشرات “ملموسة” على أن أنقرة ودمشق “تسيران بخطى ثابتة وواضحة” لإعادة علاقاتهما المقطوعة، منذ سنوات، لكن ورغم ذلك هناك جو عام في الداخل التركي، يشي بأن هذه المحطة “ستكون واقعية” في المرحلة المقبلة، ولو أن ذلك لن يكون بالمستوى الأعلى، كما حصل في العلاقة بين أنقرة وأبو ظبي مثلا، أو الرياض وإسرائيل مؤخرا.
وبينما تتالى المواقف التركية حيال ما يحصل، لم يصدر النظام السوري خلال الأيام الماضية، أي تعليق أو رد، وهو الذي يرى في التدخل التركي بسوريا “احتلالا”، ولطالما طالب بإخراج القوات التركية من البلاد، وإيقاف دعمها لما يصفها بـ”منظمات إرهابية”.
“القصة بدأت بتصريح”
وتعود القصة المتعلقة بـ”جدل التطبيع” إلى يوم 11 من شهر أغسطس الحالي، وحينها صرّح جاويش أوغلو في المؤتمر الـ13 للسفراء الأتراك في أنقرة، أنه “من الضروري تحقيق المصالحة بين النظام السوري والمعارضة، بطريقة ما”.
وفي سياق رده على أسئلة تتعلق بسياسة بلاده الخاصة بسوريا، كشف الوزير التركي أنه أجرى “لقاء خاطفا” بنظيره السوري، فيصل المقداد، على هامش اجتماع “حركة عدم الانحياز”، في أكتوبر 2021.
ورغم أن اللقاء مع المقداد كان قبل عشرة أشهر، و”لم يكن رسميا”، إلا أنه يعتبر أول اتصال دبلوماسي بين تركيا والنظام السوري، منذ عام 2011. وذلك ما أثار الاعتقاد بأنه “مقدمة للإعلان لاحقا عن انتقال التواصل من القنوات الاستخباراتية إلى الدبلوماسية”.
وكانت كلمات جاويش أوغلو قد فجّرت غضبا داخل أوساط المعارضين السوريين للنظام السوري، وتُرجمت مواقفهم بمظاهرات شعبية خرجت في ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب، حيث رددوا شعارات “لن نصالح”، فيما انتقدوا الموقف التركي المتعلق بالنظام السوري.
وبينما تصاعدت الاحتجاجات على نحو كبير، في الثاني عشر من شهر أغسطس (يوم الجمعة) أصدرت وزارة الخارجية التركية ردا توضيحيا لتصريحات جاويش أوغلو.
وجاء الرد ضمن 3 مسارات، حيث قالت الخارجية إن “تركيا لعبت دورا رائدا في الحفاظ على وقف إطلاق النار على الأرض، وتشكيل اللجنة الدستورية عبر عمليتي أستانا وجنيف، وقدمت الدعم الكامل للمعارضة ولجنة التفاوض في العملية السياسية”.
ووفقا للخارجية: “تواصل تركيا، التي توفر الحماية المؤقتة لملايين السوريين، الإسهام الفعال في الجهود المبذولة لتهيئة الظروف المناسبة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين وإيجاد حل للنزاع، وفقا لخارطة الطريق المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي 2254”.
“ليس مصالحة. تسوية”
رغم أن رد الخارجية التركية جاء ضمن إطار توضيحي لتصريحات الوزير، إلا أنه وحسب مراقبين لم يزيل حالة “اللبس” المتعلقة بعبارة: “من الضروري تحقيق المصالحة بين النظام السوري والمعارضة”.
وبقيت هذه الحالة قائمة إلى أن خرج جاويش أوغلو بتصريحات صحفية مجددا، في يوم 16 من أغسطس الحالي، وقال فيها إن “هناك من حرّف أقولنا ليس في سوريا فقط بل في تركيا”، مشيرا إلى أنه ذكر كلمة “تسوية – توافق” وليس “مصالحة”.
وأضاف في مؤتمر صحفي جمعه مع وزير خارجية لاتفيا: “المعارضة (في سوريا) تثق بتركيا، ولم نخذلها أبدا، لكننا قلنا أن التفاهم شرط لإحلال الاستقرار والسلام الدائمين في البلاد”، مشيرا إلى أن “قرار مجلس الأمن 2254 يؤكد على وحدة سوريا وسلامة أراضيها. تماما كما نؤكد نحن في كل بيان. نحن نهتم بوحدة أراضي سوريا”.
وكانت تركيا قد قدمت، عقب عام 2011، دعما قويا سياسيا وعسكريا للمعارضة السورية، من أجل إسقاط النظام، وبقيت على هذا المسار، إلى أن تدخلت روسيا عسكريا في عام 2015.
بعد عام 2015، وبينما بقي الدعم المذكور قائما وبشكل معلن مع اختلاف موازين القوى على الأرض، تحوّل الموقف إلى مرحلة جديدة مع بداية 2017، في أثناء انطلاق مسار “أستانة”.
وعقب هذه الفترة بدا ملاحظا أن تركيا لم تعد ترى رحيل الأسد خيارا قائما، لا سيما مع تغيّر المواقف الدولية التي اختلفت أيضا في أولى سنوات الثورة، عن تلك التي تبعتها بعد ذلك، بشكل تدريجي.
وتعتبر تركيا إحدى الدول الفاعلة في الملف السوري، سياسيا من خلال مسار “أستانة” الذي بلغ عدد جولاته 18 وآخر يتعلق بـ”سوتشي”، كما أنها تستضيف أكثر من 4 ملايين لاجئ سوري.
أما عسكريا فيظهر الدور الفاعل لتركيا جليا استنادا إلى الواقع الميداني المفروض من قبل قواتها والفصائل السورية التي تدعمها على طول الحدود، والمتمثلة بتحالف “الجيش الوطني السوري”.
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية بدت ملامح الرؤية التركية بشأن الملف السوري، محصورة بعدة أهداف، من بينها إبعاد أي تهديد لأمنها القومي على طول الحدود الشمالية من سوريا، بينما تصاعد الحديث وبشكل كبير مؤخرا عن “ملف اللاجئين” والمنطقة الآمنة، الخاصة بهم.
علاوة على ذلك، لطالما أعلنت أنقرة مرارا أنها تدعم “العملية السياسية الخاصة بسوريا”، وأنها تؤيد أيضا لمخرجات مسار أستانة، والذي كان له الدور الأكبر في تثبيت حدود السيطرة العسكرية، بشكلها الحالي.
“الحاكم والحليف على الخط”
لم تتوقف القصة عند التصريح الثاني لجاويش أوغلو، ليدخل بعد ذلك مسؤولين في الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وحليفه “الحركة القومية” على الخط.
وألمحت تصريحات المسؤولين “الكبار” بصورة واضحة إلى أن العلاقة بين تركيا والنظام السوري ستدخل “محطة جديدة”، بينما سيكون هناك مقاربات مختلفة بخصوص الملف السوري ككل.
ومن بين هؤلاء المسؤولين زعيم “الحركة القومية”، دولت باهتشلي، إذا دعم في 16 من أغسطس الحالي مواقف خارجية بلاده، واصفا إياها بـ”البناءة والواقعية”.
وقال باهتشلي: “الخطوات التي اتخذتها تركيا بشأن سوريا قيّمة ودقيقة، وكلمات وزير خارجيتنا البنّاءة والواقعية حول إحلال السلام بين المعارضة السورية ونظام الأسد هي تلميح قوي للبحث عن حل دائم. لا يجب أن ينزعج أحد من هذا”.
وأضاف الزعيم التركي: “رغبتنا الصادقة في أن يسود جو التطبيع في جميع المجالات ومع كل جيراننا حتى عام 2023 وما تخبرنا به الجغرافيا الشاسعة التي نعيشها هو أن العيش بالاحتضان، وليس القتال”، حسب تعبيره.
وحول إمكانية إعادة العلاقات مع النظام السوري، تابع أن “رفع مستوى العلاقات إلى مستوى المحادثات السياسية، وذلك بغية التنسيق المشترك في محاربة التنظيمات الإرهابية، قد يكون أحد الموضوعات في الأجندة السياسية المقبلة”.
وتبعه بأيام نائب رئيس “حزب العدالة والتنمية” التركي، حياتي يازجي، بقوله إن “العلاقات مع دمشق يمكن أن تصبح مباشرة، ويمكن أن يرتفع مستواها”، مضيفا أن “أهم خطوة لحل النزاعات هي الحوار”.
وكذلك الأمر بالنسبة لعضو مجلس القرار المركزي لـ”حزب العدالة والتنمية” (MKYK)، متين كولونك، مصرحا في 17 من أغسطس، بالقول: “نأمل أن تعود العلاقات بين تركيا وسوريا إلى ما كانت عليه قبل يونيو 2011”.
ماذا عن المعارضة؟
على الطرف الآخر من الداخل التركي كان للنقاش المتعلق بعلاقة سوريا بالنظام السوري نصيبا لدى أوساط أحزاب المعارضة، وهي التي سبق وأن رددت هذا المطلب، خلال العامين الماضيين.
أحمد داوود أوغلو زعيم “حزب المستقبل” اعتبر أن المواقف والتصريحات الأخيرة التركية بشأن “المصالحة بين النظام السوري والمعارضة” جاءت “بضغط شديد من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين بعد قمة سوتشي”.
وقال داود أوغلو، في تصريحات لشبكة “ميديا سكوب”، 13 من أغسطس: “إذا ما وضعنا الجانب الأخلاقي بعيدا فإن هناك 3 شروط لا بد من توفر أحدها.. الشرط الأول هو أن يبدأ النظام فعليا بعملية مصالحة وسلام داخل البلاد، لكن هذا غير موجود الآن، أما الشرط الثاني فهو سيطرة النظام بالقوة على كامل الأراضي السورية وهذا أيضا غير موجود”.
أما الشرط الثالث فهو أن “تكون لهجة النظام الرسمية متعاونة مع تركيا وتسعى للتقارب معنا، وهذا أيضا غير موجود”.
بدوره اعتبر المتحدث باسم “حزب الشعب الجمهوري”، فائق أوزتراك أن “أكبر فشل في السياسة الخارجية في تاريخنا الجمهوري هو السياسة السورية”، معتبرا أن دعوات إعادة العلاقة مع النظام السوري في الوقت الحالي كان حزبه قد طالب بتنفيذها، منذ زمن.
أما “حزب السعادة” المعارض فقد أعلن زعيمه تمل كرم الله أوغلو، في 18 من أغسطس، أن “التصريحات حول ضرورة إعادة العلاقات مع سوريا تعتبر تطورا إيجابيا”.
علاوة على ذلك، كان لـ”حزب وطن” الذي لا يحسب على المعارضة لكنه أقرب إليها من الحزب الحاكم وحليفه “مسارا استثنائيا” قياسا بالمواقف المذكورة سابقا، حيث أعلن زعيمه، دوغو بيرينجيك أنه بصدد إجراء زيارة إلى العاصمة السورية دمشق، في غضون 15 يوما.
وقال بيرينجيك في حوار مع قناة “هالك تي في”، الخميس إن الزيارة “بدعوة من الحكومة السورية والرئيس بشار الأسد”، وإن “لأول مرة منذ 10 سنوات ستقلع طائرة ركاب تركية من تركيا إلى دمشق”.
وعن الموضوعات التي ستتم مناقشتها مع الأسد، أضاف بيرينجيك: “ستكون إنهاء الإرهاب والعودة الآمنة لضيوفنا في تركيا إلى بلادهم. سوريا تغفر لهم بالفعل. سوف نقدم الثقة الكاملة”.
وتابع: “إنهاء حزب العمال الكردستاني يتطلب التعاون مع سوريا أيضا”، رافضا المشروع الذي سبق وأن أعلن عنه إردوغان بإنشاء “منطقة آمنة” على طول الحدود السورية – التركية، لتوطين اللاجئين السوريين فيها.
ويعتقد زعيم الحزب، بحسب نص الحوار أن “التطبيع مع النظام السوري سيكون سريعا”، معتبرا أن “التقارب بين تركيا وروسيا وتركيا وإيران وتركيا والصين يتشابك في سوريا وسوف يلعب دورا رئيسيا”.
“على كل لسان”
وبعد مرور أسبوع على التصريحات الأولى للوزير جاويش أوغلو بات “جدل التطبيع” على كل لسان في تركيا، وخاصة من جانب المحللين وكتاب الرأي، والذين أفردوا بدورهم مساحات تعليق، عبر الصحف المقربة من الحكومة والمعارضة أيضا.
سادات إرغين محلل تركي كتب مقالة على صحيفة “حرييت”، يوم الخميس، ناقش فيها سياق التطورات الحاصلة بشأن “عملية التطبيع”، واستعرض سلسلة من الأسئلة التي وصفها بـ”الصعبة والمفتوحة”. وهي من شأنها أن تجعل المسار أكثر بطئا.
ومن بين هذه الأسئلة: “هل يمكن تنفيذ خارطة الطريق الخاصة بالأمم المتحدة؟”، في إشارة منه للخطوات التي يضعها المجتمع الدولي أمام أي حل سياسي في سوريا، ماذا عن تشابك القوى في الميدان؟، ماذا سيحدث للإدارة في إدلب؟، هل يمكن أن يكون هناك مكان لـ”إدارة هيئة تحرير الشام” في إدلب في الرؤية الجديدة لسوريا؟.
وأسئلة أخرى مثل: “ما هو الخيار الذي تريده أنقرة بخصوص سوريا؟”، وماذا عن “الوحدات الكردية” في شمال وشرق البلاد، والخطوات التي تثار بشأن دمجها في “الجيش السوري”.
يوسف ألاباردا خبير أمني وعسكري كتب أيضا تحليلا في صحيفة “تركيا”، يوم الخميس، قال فيه إن “التفكير في أن هناك أسدا (بشار الأسد) يمكنه تنفيذ سياسة مستقلة على الأرض دون التنسيق مع روسيا وإيران يقودنا إلى نفس الطريق المسدود في نهاية المطاف”.
ويبدو أن موضوع اللقاء مع الأسد، الذي اكتسب زخما بعد زيارة الرئيس إردوغان إلى سوتشي في الأسابيع الماضية، “جاء نتيجة ضغوط مارستها روسيا على الأسد”، حسب ألاباردا.
وتحدث الخبير الأمني عن سلسلة من المشاكل التي قد تحول دون عودة العلاقات كاملة بين دمشق وأنقرة، من بينها “مشكلة التغيير الديمغرافي الحاصلة في سوريا”، والمشكلة المتعلقة بنوايا بشار الأسد إزاء معارضيه.
وأضاف: “لماذا الأسد الذي ولد ونشأ على نموذج يتم فيه قمع أدنى حركة معارضة، بما في ذلك الأب حافظ الأسد أن يقدم تنازلات للذين يعارضونه أو يعطي الضوء الأخضر لهم للعودة إلى سوريا؟”.
ويتابع: “على الرغم من كل هذا، يجب على تركيا مقابلة الأسد وإجبار الأسد على اتخاذ خطوات لإعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا ضمن جدول نشاط قصير للغاية وتطهير الحدود من العناصر الإرهابية”.
وزاد: “لكن سيتبين أن كلا من إيران والأسد لن يوافقوا على ذلك وسيريدون منع رزنامة النشاط هذه من العمل مع استفزازات مختلفة”.
من جهتها رأت صحيفة “خبر تورك”، في مقال لكاتبها كورشاد زورلو أن هناك “فرصة لفتح الباب، حتى لو لم تكن هناك نتائج ملموسة على المدى القصير”، في إشارة منه لمسار “عودة العلاقات”.
ودعم زورلو فكرة “العودة”، من زاوية إمكانية “وضع خارطة طريق واضحة وملموسة لعودة طالبي اللجوء ، والتي هي بالتأكيد القضية الأكثر أهمية لأمتنا”، داعيا إلى أن تكون “العودة (للاجئين) هي الهدف الرئيسي وطريقة عمل الدولة”.
المصدر: الحرة. نت