منير الربيع
لا بد للمرء أن يصاب بخيبة أو ألم، نتيجة التسريبات الكثيرة التي تتحدث عن إمكانية إعادة التواصل بين تركيا والنظام السوري. عوامل كثيرة، عاطفية وسياسية تتداخل فيما بينها. خاصة أن الرهان على أنقرة كان كبيراً في دعم المعارضة ومواجهة النظام والسعي لإسقاطه، وهو أمر لم تقدم عليه تركيا باكراً في سنوات 2012 و 2013 بسبب عدم توفر الظروف الدولية ولا الإقليمية المناسبة. ووراء ذلك أسباب كثيرة إقليمية ودولية، وجيوستراتيجية تتعلق بالتغير الديناميكي الذي يشهده النظام العالمي والعلاقات بين الدول.
قبل أسابيع عقد اللقاء الأول لمسؤول تركي في العاصمة السورية دمشق. التواصل الأمني استمر بين الطرفين بوساطات روسية وإيرانية، ولقاءات عُقدت سابقاً في هاتاي وفي موسكو بين هاكان فيدان وعلي مملوك. لتركيا أسباب كثيرة تدفعها للإقدام على هذه الخطوة، وهنا أيضاً لا مجال للحديث بالعاطفة التي تدفع إلى معارضة الخطوة التركية ومناصرة الثورة السورية. ولا مجال أيضاً للتبرير لأنقرة خطوتها. إلا أن ثمة متغيرات سياسية واستراتيجية تفرض نفسها على رجب طيب أردوغان. الذي نجح في لعب أدوار بارزة على صعيد الإقليم ونجح في استعادة تركيا لدور مؤثر في القوقاز، وآسيا وأوروبا بالإضافة إلى الشرق الأوسط.
وبناء عليه، يمكن تقسيم المسار السياسي التركي منذ ما بعد وصول العدالة والتنمية إلى السلطة إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى أيام الوئام بين أردوغان وأحمد داود أوغلو والتي ارتكزت على الرؤية الاستراتيجية لأوغلو أحد أبرز وزراء الخارجية الأتراك وهي نظرية العمق الاستراتيجي القائم على صفر مشكلات، فنجحت أنقرة بتعزيز نفسها اقتصادياً وتجارياً. المرحلة الثانية هي مرحلة الربيع العربي والخلاف بين أوغلو وأردوغان، وصولاً إلى دخول تركيا في مشكلات الإقليم، فكان الحضور في مصر ما أدى إلى خلافات وتباعد مع الدول العربية والخليجية، وكذلك بالنسبة إلى الدخول في ليبيا على الرغم من تحقيق أنقرة لمكسب استراتيجي بتوقيع الاتفاق البحري مع طرابلس الغرب. في هذه المرحلة، نجح أردوغان بتثبيت حضور تركيا ودورها في العراق، سوريا، وعزز وضعه في أذربيجان، والقوقاز، وصولاً إلى أوروبا انطلاقاً من الدور الذي لعبه في أوكرانيا، فأصبح حاجة وضرورة للطرفين الأوكراني والروسي فيما الأوروبيون يقفون عاجزين أمام آلة الحرب وتبعاتها وتداعياتها.
المرحلة الثالثة والتي تدخلها تركيا للتو، هي مرحلة استعادة العلاقات مع كل الدول التي خاصمتها سابقاً، بدءاً من المصالحة مع السعودية والإمارات واستكمال المساعي لترتيب العلاقات مع مصر، وحتى مع إسرائيل، ولهذه الترتيبات اعتبارات طاقوية، لا سيما أن تركيا تستعد لاستخراج الغاز والنفط في السنة المقبلة، وهي السنة التي ستشهد الانتخابات الرئاسية التي يخوضها أردوغان مجدداً وستتحكم بها عوامل كثيرة. تقتضي هذه المرحلة العودة تدريجياً إلى نظرية صفر مشكلات، على الرغم من صعوبتها. فيما تطمح تركيا للعب دور أساسي في عملية توريد الغاز إلى أوروبا.
أمام هذه الوقائع، لا يمكن إغفال إمكانية احتلال هاجس أساسي لعقل أردوغان وهي بنتيجة ما خبره الرجل من سياسات الدول، وكانت ترجمته القاسية في محاولة الانقلاب في العام 2016. كانت تلك إشارة أساسية حول استعداد الدول للقيام بأي خطوة ضده أو لقلب نظامه أو إضعاف الدور التركي. وذلك باللجوء إلى استخدام الساحة الداخلية والضرب تحت الحزام، طالما أن الرجل كان يقول إن القوى الخارجية عجزت عن تطويع تركيا أو هزيمتها. هنا لا بد من الوقوف أمام تجربة أردوغان مع حلفائه في الناتو أو خارجه مع التنظيمات الكردية والتي تنظر إليها أنقرة بأنها تمثل خطراً وجودياً، فيما القوى الخارجية تدعمها، هذا يدفع الرجل إلى التخوف من الذهاب إلى دعم الخيارات الانفصالية على قاعدة تصغير الكيانات في الساحة العالمية من أوروبا إلى الشرق الأوسط. وهو لا يريد أن يصل هذا الدور على تركيا لا باستخدام المسألة القومية أي الاكراد، ولا المسألة الطائفية أي العلويين الذين ينحصر وجودهم بين تركيا وسوريا.
وهذا ما يتثبت في ما نُقل عن أردوغان بأنه لو التقى الأسد في قمة شنغهاي لكان أبلغه أن سوريا ستتقسم، فهذا الكلام له دلائل استراتيجية بعيدة المدى، وهي تؤشر إلى أن أي لقاء سيعقد بين الرجلين سيكون له هدف الحصول من الأسد إلى اعتراف بالوجود التركي في الشمال السوري، على قاعدة انتزاع تلك المنطقة الآمنة والحفاظ عليها تحت عنوان الأمن القومي التركي، وإلا لن يكون هناك أي رغبة لدى الرئيس في اللقاء.
يأتي ذلك على وقع التشظيات الكبيرة التي أصيبت بها القضية السورية، التي أصبحت عبارة عن قضايا متشابكة ومتضاربة، سواء بالموضوع الكردي، أو بالموضوع الطائفي. بينما تبدو المعارضة السورية غائبة عن أي تأثير أو فعالية، وغائبة عن تقديم خطاب أو برنامج واضح، ومعروف أن الكلام في هذا المجال أصبح مستهلكاً وممجوجاً. وكان له ما يماثله بشأن القضية الفلسطينية على مدى 70 عاماً، إذ لم تجد فلسطين من يساندها سوى بالكلام، فيما كانت الفعالية للفلسطينيين أنفسهم والذين نجح ياسر عرفات كما غيره بإعادتهم إلى قلب فلسطين وإنشاء الدولة.
وهذا ما يجب على السوريين إعادة إنتاجه، أو من خلال إعادة مأسسة العمل السياسي، وصناعة الثورة مجدداً بصناعة الرمز الذي سيكون قادراً على فرض شروطه وإسماع صوته في تركيا أو في الدول العربية أو على الصعيد العالمي أيضاً. وهذا لا بد أن يترافق مع مواجهة حالة الضعف التي أصيبت بها المعارضة السورية التي أصبحت عاجزة عن الإمساك بالواقع على الأرض في المناطق المحررة، بينما تحولت السيطرة إلى الميليشيات بما فيها الميليشيات المتطرفة التي هي بعيدة كل البعد عن الثورة. فيما تبحث أنقرة عن جهة ما تكون قادرة على التواصل معها وبناء عليه لم يوجد في الميدان سوى بشار الأسد، بنتيجة ظروف دولية وإقليمية تكمن فيها مقومات نظرية المؤامرة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا