علي العبدالله
أثارت قمة منظمة شنغهاي للتعاون، عقدت يومي 15 و16 سبتمبر/ أيلول الجاري في سمرقند الأوزبكية، بتصريحات قادتها وبيانها الختامي وبالتركيز على إقامة نظام دولي جديد قائم على “التعدّدية” و”العدالة”، أسئلة حول طبيعة “المنظمة” ومدى قدرتها على التأثير على النظام الدولي القائم، في ضوء التعارض القائم بين تنوع أنظمتها وتباين مصالح دولها وسياساتها في ملفاتٍ كثيرة، إقليمية ودولية؛ ناهيك عن الخلافات على الحدود والمواجهات الدامية التي وقعت بسببها، والتنافس الجيوسياسي والاقتصادي الذي يجعل “تعاون” دولها المفترض هشّاً وعرضةً للاختراق.
تلفت “المنظمة” انتباه المراقب في نقاط هامة، مثل عدد الدول المشاركة فيها، الصين وروسيا والهند وباكستان وروسيا البيضاء وإيران وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وحجم الكتلة البشرية التي تتكون منها، نحو 40% من سكان العالم، وحصّتها في الإنتاج العالمي، أكثر من 20% من إجمالي الناتج العالمي، حوالى 22 تريليون دولار، والرقعة الجغرافية التي تشغلها، مجموع مساحة دولها 30 مليون و189 ألف كيلو متر مربع، وموقعها، تمتد من القطب الشمالي شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً؛ ومن المحيط الهادئ شرقاً إلى بحر البلطيق والأسود غرباً، وأهمية الرقعة جيواستراتيجيا وجيوسياسيا وما فيها من ثروات طبيعية وتنوع بشري ومناخي. هذا بالإضافة إلى أن أربعاً من دولها نووية. والدول المراقبة، أفغانستان ومنغوليا، والدول المشاركة تحت صيغة “شركاء في الحوار”، أرمينيا وأذربيجان وكمبوديا ونيبال وسريلانكا وتركيا، وقد أعلن في القمة طلب خمس دول عربية الانضمام إليها ضمن هذه الصيغة، مصر والإمارات والكويت والبحرين وقطر.
وقاد هذا إلى نشوء تقديرٍ يعتبر “المنظمة” معادلاً اقتصادياً لمجموعة السبع، وإلى المراهنة على قدرتها على الدفع نحو تغيير النظام الدولي القائم. وتبقى هذه المراهنة على “المنظمة”، التي أسست محاولة لإغلاق أوراسيا في وجه الغرب، معادلاً اقتصادياً لمجموعة السبع، وعلى قدرتها على تغيير النظام الدولي القائم، مجازفة في ضوء التباين البنيوي بين الدول المشاركة فيها، وتعارض المصالح والأهداف القريبة والبعيدة بينها، فالصين التي تريد “المنظمة” سوراً واقياً من حصار غربي محتمل وسوقاً لتسويق إنتاجها الضخم وممرّاً نحو أسواق الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا، والمحافظة على تطوّرها ومكاسبها التقنية والتجارية التي أكسبتها نفوذاً اقتصادياً ودبلوماسياً عالمياً. وهذا مرتبط بإبقاء الصين على علاقاتها قوية بالدول الغربية، فحاجتها إلى التقنية الغربية، التي تفتقر إليها لتطوير قدراتها الصناعية والعسكرية، ضرورة حيوية، ما دفعها إلى البقاء بعيداً من الخطر المتزايد الذي يسبّبه الغزو الروسي لأوكرانيا، وعدم تقديم أي دعم مادي مباشر لروسيا في عدوانها خوفاً من فرض عقوباتٍ غربية عليها، في حين تريد روسيا القطع مع الغرب وإرغامه على الاعتراف بها قطباً دولياً موازياً للقطب الأميركي. لكنها، ومع التقائها مع الصين على هدف إبعاد الدول الغربية عن الإقليم، الولايات المتحدة بشكل خاص، لا تنظر بايجابية إلى زيادة النفوذ الصيني فيه، لأنه يتم على حساب مصالحها ونفوذها، فروسيا تعتبر دول وسط آسيا حديقتها الخلفية، وتعمل على الهيمنة والسيطرة على تفاعلات الإقليم المحلية والإقليمية والدولية، والانخراط في تنافس جيوسياسي مع الدول الطامحة للدخول إليه، بما في ذلك حلفائها في “المنظمة”، الصين بشكل خاص، حيث يدور تنافس حادٌّ على النفوذ في دول الإقليم وصراع صامت بينهما على قيادة “المنظمة”، ورقة روسيا القوية في التنافس موقعها الدولي في مجال القوة النووية، تمتلك أكبر عدد من الرؤوس النووية عالميا، في حين تعتمد الصين على قدراتها الاقتصادية والتقنية، وعلى احتياج دول وسط آسيا لقوة دولية توازن النفوذين الأميركي والروسي. عملت روسيا على ضمّ روسيا البيضاء إلى “المنظمة”، وذلك لتعزيز وضعها داخل “المنظمة”، حيث تبدو قزمة بالمقارنة مع العملاق الصيني.
تنطلق الهند من رؤية مختلفة قائمة على ما تسمّيه “الانحياز المتعدّد”، الذي يتحاشى القناعات الثابتة التي تفرضها منطلقات عقائدية محدّدة، تستدعي مواقف مسبقة، ويتعاطى مع كل ملف وحالة وفق ظروفها ومعطياتها الايجابية والسلبية. موقف نفعي بامتياز.
وانطلاق جمهورية إيران الإسلامية، التي انضمت، أخيراً، إلى “المنظمة” من اعتبار الأخيرة مكملاً لجبهة المقاومة التي أقامتها لاحتواء “الشيطان الأكبر” الأميركي ودحره. أما دول “المنظمة” الأخرى، صغيرة العدد ضعيفة الإمكانات، فتبحث عن أطر حماية ومنافع من دون اعتداد بالعقائد والاستراتيجيات.
زاد الطين بلة ما بين دول “المنظمة” من خلافات وصراعات على الحدود والموارد، وما يثيره ارث التاريخ من ذكريات وآلام، فالحدود الروسية الصينية الطويلة، والتي تشتمل على مساحات شاسعة من الأراضي الصينية، التي ضمّها الاتحاد السوفياتي في حربين حدوديتين في ستينيات القرن الماضي، غير محدّدة وغير متفق على شرعيتها واستدامتها. الصين والهند في خلافات عميقة على خلفية خلافات على الحدود وعلى المصالح والأدوار في سياسة الإقليم، وقد انخرطتا في مواجهات مسلحة مرّتين، وقد اندفعت الهند، التي تعاني من نقاط ضعف في مواجهة الصين، إلى الانخراط في اتفاقاتٍ وتحالفاتٍ مع الدول الغربية لاحتواء التمدّد الصيني في الإقليم، لم يخفّف وجودهما معاً في “المنظمة” من حالة الصراع والتنافس الحاد المستحكم. كما خاضت الهند أربع حروب مع جارتها باكستان، خسرت فيها قطعة أرض في ران كوتش، لكنها نجحت في تقسيم باكستان من خلال إيجاد دولة بنغلاديش.
كازاخستان، العضو المؤسس في “المنظمة” لم تتقبل التبرير الروسي لغزو أوكرانيا، كما رفضت الاعتراف بشرعية الكيانين المعلنين في دونيتسك ولوهانسك، والتزمت بالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا. كان ذا دلالة وصف الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي الحالي، ديمتري ميدفيديف، كازاخستان بـ “دولة مصطنعة”، وإنها كانت مستعمرةً روسيةً ومساحة واسعة من أراضيها روسية، والتصريح الذي قاله الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إن بلاده ستدعم كازاخستان بحزم في الدفاع عن استقلالها وسيادتها وسلامة أراضيها. ما يؤكّد حجم الصراع الجيوسياسي بين الصين وروسيا ووزنه في آسيا الوسطى، والذي، وفق محللين كثر، لا يميل لصالح الأخيرة. وقد أعلنت أوزبكستان، العضو المؤسس الآخر في “المنظمة”، بعد انتهاء القمة التي استضافتها تعليق العمل بالبطاقات الائتمانية الروسية “مير”.
قرغيزستان وطاجيكستان في خلاف مرير على الحدود، وقد دخلتا في مواجهات مسلحة في أعوام 2004 و2005 و2008 و2011 و2014 و2015، و2020 بشأن الوصول إلى الموارد، المياه بشكل خاص، واستخدامها بين المجتمعات الحدودية، وقد تجدّدت المواجهة قبل يوم من انعقاد قمة “المنظمة” واستمرت خلالها. .. وكان وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان، الذي رعته روسيا بعد المعارك الدامية بين الدولتين عام 2020، قد انهار، وعاد القتال على مناطق في ناغورني كراباخ، وهما دولتان لهما صفة شريك في الحوار في “المنظمة”.
بقيت العلاقات والمواقف والخيارات داخل دول “المنظمة” العتيدة مرتبطة بالجغرافيا السياسية، والنزاع والتنافس على المصالح والحقوق، فقد كشفت القمة ليس عدم وجود تطابق في المواقف بين دول “المنظمة” فقط بل وجود تباين وتعارض في المواقف والمصالح، حيث تلقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ملاحظات شريكيه الأقوى والأكبر في “المنظمة”، الصين والهند، حول حربه المجنونة على أوكرانيا ودعوتهما المضمرة إلى وقف العدوان والبحث عن مخرج سلمي. أصدر الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال القمة بياناً مصاغاً بعناية قال فيه: “في مواجهة عالم متغير وأزمنة متغيرة وتغيرات تاريخية، الصين جاهزة للعمل مع روسيا لإظهار مسؤوليات القوى الكبرى، لغرس الاستقرار والطاقة الإيجابية في عالم تسوده الفوضى”. وقال رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، لبوتين في لقاء معه على هامش القمة: “الآن ليس وقت الحرب”. الرئيس التركي، أردوغان، دعا إلى وضع حد للحرب في أسرع وقت ممكن، ما اضطر الرئيس الروسي على الاعتراف بالتباين بينه وبين شركائه في “المنظمة” بشأن غزو روسيا أوكرانيا.
تمتلك “المنظمة” أوراقاً هامة في التنافس الجيواستراتيجي والجيوسياسي مع التحالف الغربي، من الموقع الاستراتيجي إلى القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية إلى وجود اهتمام دولي بالانضمام إليها، بالإضافة إلى استفادتها الكبيرة من أخطاء التحالف الغربي وتجاوزاته وممارساته الغبية التي تتعارض مع مبادئه السياسية والأخلاقية، والأزمات المالية وانتشار الأوبئة والتغير المناخي التي ترتبت على طرق ووسائل التنمية فيه، كشفت مواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية والأوبئة على خلفية مصالح وطنية بحتة عدم عدالة النظام الدولي القائم، وضيق دول كثيرة المتزايد من الانفراد الأميركي وتحكّم الولايات المتحدة بالنظام الدولي القائم في قراراته السياسية والاقتصادية والعسكرية، ورغبتها المتصاعدة بالتخلّص من هذه الهيمنة والسيطرة والانحياز لنظام خال منهما. لكنها، “المنظمة”، تعاني من نقطة ضعف جوهرية كون معظم أعضائها لا يهتمون بتغيير النظام القائم بقدر اهتمامهم بتحقيق بعض المكاسب وحماية الأمن والاستقرار الوطني؛ وإن روسيا والصين وحدهما تعملان على إحداثه، ولكن لاعتبارات متباينة وأهداف متباينة. هذا يجعل الضيق والرغبة لدى دول كثيرة للتخلص من الانفراد الأميركي خارج حساب التوجّه الروسي الصيني، ما لم يوحد رؤيته ويؤكد صدق دعوته نحو التعدّدية والعدالة الدولية.
يستدعي تغيير النظام الدولي القائم، الذي يتحكّم الغرب به في ضوء بنيته وآليات عمله التي أشرف على وضعها من خلال موقعه طرفاً منتصراً في الحرب العالمية الثانية وانفراد الولايات المتحدة بإدارته بعد نهاية الحرب الباردة، وإقامة نظام دولي جديد أو معدل توافقاً دولياً على المعايير والمبادئ الناظمة، كي لا يأتي منحازاً لرؤية طرف أو أكثر، بحيث يبقى الصراع الدولي سائداً.
المصدر: العربي الجديد