عبدو فايد
إخفاق الآلة الحربية الروسية مخيف..خصوصًا بعد الضربة الأوكرانية النوعية، بتدمير جزء من جسر كيرتش الرابط بين القرم وروسيا..
الأسطر القادمة عن العقيدة الإستراتيجية الروسية في عهد بوتين طويلة للغاية، وأعتذر مقدمًا، لكنه أقل اختصار ممكن لسياق شديد التعقيد من السلاح والنفط والجيوبوليتيك أوصل في النهاية لتلك النقطة الحرجة في مستقبل توازن القوى في العالم..أعتذر فعلًا.
بوتين بدأ عهده بفضيحة عسكرية هائلة ستكون في مرحلة لاحقًا نقطة كاشفة لما وصلت إليه روسيا عسكريًا في عهد سلفه يلتسين، ومفصلية فيما ستصبح عليه لاحقًا في زمن فلاديمير بوتين..فضيحة كورسك…الغواصة النووية الروسية كورسك أبحرت في مهمة اعتيادية في بحر بارنتس بالقرب من السواحل النرويجية عندما فقدت الإتصال بالقيادة، الرواية الأكثر ترجيحًا تُفيد بانفجار طوربيد بالخطأ مما أدّي إلي غرقها بينما كانت تحمل علي متنها 118 بحارًا، الأقسام الأربعة الأولي المجاورة لقسم الطوربيدات انفجرت في ثوان وقضي بحارتها في سرعة خاطفة، أما الرعب الخام فقد عايشه أولئك الذين احتموا بالقسم التاسع وعددهم 23 بحارًا..أطلقوا إشارة الإستغاثة فتمكّنت القيادة من تحديد موقعهم علي عمق 1000 متر.روسيا في أغسطس 2000 كانت تمتلك أسلحة نووية يُمكنها نسف الكوكب، لكنها لم تكن تمتلك المعرفة التقنية لإنقاذ طاقم غواصة واحدة.
فور علمها بغرق الغواصة عرضت القوات المسلحة البريطانية التدخل لإنقاذ الطاقم، لكن موسكو رفضت، ثم مكثت ستة أيام كاملة ترفض التدخل الأجنبي، إلي حين وافقت علي قبول العرض النرويجي، بيد أن روسيا عطّلت الطاقم النرويجي ثلاث أيام إضافية بسيل من المعلومات المغلوطة والتي كانت تُعرّض الغواصين النرويجيين للخطر، فهدّد منسق العملية من الجانب النرويجي ‘‘إينار سكورجين‘‘ بالإنسحاب من المهمة..في الأخير وبعد 9 أيام من غرقها، تمكّن النرويجيون من فتح بابها، والتأكد مما كان معروفًا بالمنطق..كل البحارة ال 118 قضوا نحبهم.
ما زاد الفجيعة الروسية سوءً كان حجم الإرتباك الذي ساد القيادات العليا من كبار الجنرالات، الذين هربوا من المسئولية بتقديم استقالاتهم، إلي وزير الدفاع إيجور سيرجيف الذي اختفي من المشهد، وصولًا للرئيس بوتين الذي كان في أولي سنوات سلطته، أمضي أسبوعًا بعد غرق الغواصة دون أن يتقدّم بكلمة واحدة للإعلام أو الأهالي، عوضًا عن ذلك كان يجلس في منتجع سوتشي يستقبل ضيوفه مرتديًا تيشيرت أبيض وعلي وجهه ابتسامة التقطتها عدسات الكاميرات.
روسيا العاجزة عن إنقاذ بحارتها، عجزت أيضًا عن انتشال الغواصة..فأسندت المهمة إلي كونسرتيوم هولندي، وتمكّن بعد عام ونصف من رفعها بما تحمل من مفاعل نووي وطوربيدات وصواريخ باليستية، في عمل أسطوري يُمكنك الوقوف علي تفاصيله المرئية عند مشاهدة وثائقي تحت اسم ‘‘ Kursk Submarine Disaster‘‘..وعقب ذلك توّلت الإستخبارات العسكرية الروسية تفتيش وفحص كل إنش من جسدها العملاق، إلي أن دخل المفتشون القسم التاسع، حيث أعادوا معايشة رعب المحتجزين هناك، ودخل بعض العسكريين في نوبات فزع، ورفضوا إكمال المهمة، بينما لم يتمالك بعض من كبار الجنرالات الروس دموعهم.
أسوأ ما في الأمر كان العثور علي رسالة كتبها الكابتن ‘‘ديمتري كوليسنكوف‘‘ وهو يصف اللحظات الأخيرة..كان محتجزًا رفقة 22 من زملائه في القسم التاسع للغواصة..النور بدأ يخفت، وزملائه يائسون، بعضهم احترق أجزاء من جسده بفعل الإنفجار، والبعض حاول استكشاف طريق نجاة دون جدوي، وكلهم محاصرون بالدخان السام..ديمتري انتظر مع زملائه قدوم العون من موسكو، لكنهم جميعًا قضوا في ظروف شديدة الرعب..علي عمق ألف متر، في غواصة نووية، مكابدين الإختناق الطويل المؤلم.
ضربة كورسك لخصت الحال الذي تداعت إليه العسكرية الروسية بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي، ولم تكن الأخيرة، بل أعقبتها بعامين حادثة الغواصة بريز علي سواحل بيتروبافلوفسك-كامتشاتسكي، لكن هنا الروس تعلموا الدرس واستنجدوا بالإنجليز، ثم تلتها حادثة تصادم طائرتين عموديتين من طراز MI-24 في 2003 وغيرها..بوتين ورث عبء ثقيل من الإنهيار العسكري ورغم أنه وقف في أول عهده عام 2000 يلقي خطابًا في مفخرة روسيا وقلعتها العسكرية في نيجيني نوفجورود عن خططه لتطوير البنية التسليحية، لكنه عجز طيلة سنوات عن إنفاذ عهوده..
والسبب يعود لعوامل ثلاث..أولًا إنشغاله بالحروب الداخلية وقمع التمرد المحلي في الشيشان وبنسبة أقل داغستان، والثاني إعادة تنظيم البنية السياسية للدولة، والعودة مرّة أخري لسيطرة الحزب الواحد (روسيا الموحّدة) بعد عقد من الإنحلال اليلتسيني الهائل الذي بدأ بقصف البرلمان بالدبابات في صراعه مع رسلان حسبولاتوف وانتهي بأزمة اقتصادية ساحقة في 1998 كانت تودي بروسيا إلي الإفلاس، وما بين التاريخين من سيطرة أوليجارشية موالية قيميًا للولايات المتحدة، استفادت من أكبر برنامج فساد في تاريخ الإنسانية (الأصول مقابل القروض) من أمثال جرنوفيسكي وخودراكوفيسكي وبريزوفيسكي وكلهم تحت إمرة تاتيانا إبنة يلتسين..وثالثُا ضعف الموارد المادية..والأخيرة تحديدًا كانت مفصلية فيما سيأتي.
الإرتفاع الهائل في أسعار النفط بداية من 2006 أمّن ضخًا ماليًا استثنائيًا للعسكرية الروسية..لأول مرة ارتفعت المشتروات العسكرية من 50 مليار روبل عام 2000 إلي 300 مليار روبل عام 2006، وتضافر ذلك مع حسم الصراع داخل الجيش الروسي بين الدفاع والأركان لصالح وزير الدفاع سيرجي إيفانوف والبدء بعملية هيكلة واسعة، كان من أبرز محطاتها، دمج القطاع الخاص العسكري مع الإحتياجات الوطنية، وتعيين أشخاص من وزن سيرجي تشيميزوف مدير روس بورون أكسبورت مدير الوكالة الإتحادية للطلبات الدفاعية، وتولى التنسيق ما بين الإحتياج المحلي والتصدير، وفتح أسواق إضافية للسلاح الروسي في الخارج وفّرت 6,5 مليار $ من العائدات..إلي أن أتت النقطة الحاسمة في إعادة بناء القدرات العسكرية الروسية، عندما أعلن بوتين عن خطة تاريخية لتحديث الجيش بقيمة 4,9 تريليون روبل خلال الفترة 2007-2015..هنا لابد من وقفة.
عندما انهار الإتحاد السوفيتي، سعت روسيا الجديدة لتقارب غير مشروط مع الغرب..بطلا القصة هما الرئيس يلتسين ووزير خارجيته أندريه كوزيريف..لك أن تتخيلّ أن يلتسين ذهب عام 1992 في زيارة إلي واشنطن والتقي بنظيره بوش الأب في زيارة امتدت من 15-19 يوليو، عارضَا عليه نزع روسيا سلاحها الإستراتيجي منفردة مقابل حزمة مساعدات أميركية بلغت 5,4 مليار $، بل أن الرئيس الروسي تمادي في سذاجته عارضًا إنشاء مظلة نووية عالمية موحدة بشراكة أميركية-روسية، حيث أن بلاده لم تعد عدوًا لأميركا..لكن الأمر لم يتوقف عند حاجز النوايا الروسية ‘‘الحسنة‘‘ بل تعدّتها إلي المستوى العقائدي بصياغة ما سيعرف لاحقًا بعقيدة كوزيريف..والتي قامت على مرتكز أساسي وهو الإسراع في الإنضمام للمؤسسات الغربية السياسية والإقتصادية، وتسريع وتيرة نزع السلاح مقابل الإعتراف بروسيا دولة قوية وشريكًا أمنيًا والحفاظ على مبدأ الجوار القريب أي عدم التدخل في حرية الحركة الروسية داخل الدول المستقلة عن الإتحاد السوفيتي.
والنتيجة كانت مذلّة هائلة لروسيا..عندما ألغت روسيا حلف وراسو ( الموازي الشيوعي للناتو في الحرب الباردة) تقاطرت دول الإتحاد السوفيتي علي الإنضمام للناتو، بل أن واشنطن سعت لحصار موسكو في كل ميدان تربطه بروسيا علاقات حضارية-دينية..حروب يوجوسلافيا كانت جزءً من ذلك، مع سعي كرواتيا والبوسنة تحديدًا لإنفصال عن الهيمنة الصربية، والصرب هم المكون اليوجوسلافي الوحيد الذي يتقاسم مع روسيا العرق السلافي والمذهب الأرثوذكسي الشرقي، مقابل الكروات السلاف الكاثوليك، والبوسنيين البوشناق المسلمون..وبالفعل تقسمّت يوجوسلافيا وانتهت معركة البوسنة بإتفاق دايتون الذي أنتج جمهورية بثلاث رؤساء من ثلاث ديانات..وكل ذلك وقع بموافقة يلتسين، لأنها كانت حملة أممية تمت بموافقة روسية في مجلس الأمن..لكن كوسوفو لن تكون كذلك..إذ اندلعت حربها مع يوجوسلافيا عام 1997 بعد أن ألغت الأخيرة الحكم الذاتي..فخرجت أميركا بقرار منفرد وقصفت العاصمة اليوجوسلافية بلجراد لمدة 78 يوم إلي أن سحقت قدرات سلوبودان ميلوسوفيتش.
وقتها شعرت روسيا بما هي عليه بالفعل..قوة أوروبية متوسطة لا تقبل واشنطن أن تعاملها كند..ليخرج يلتسين بتصريحه الشهير ‘‘ روسيا أكبر من أن توضع في غرفة الإنتظار‘‘..ومن هنا كان التعديل بإزاحة صديق أميركا كوزيريف والإتيان بأحد الساسة الروس المخضرمين في مجال السياسة الخارجية وهو ‘‘يفجيني بريماكوف‘‘ والأخير صاغ عقيدة جديدة عُرفت باسمه ‘‘ مبدأ بريماكوف‘‘ The Primakov doctrine وفيها تتخلى روسيا عن وهم الإندماج الحضاري مع الغرب وتُعيد مفهوم الصراع ‘‘المحسوب‘‘ للواجهة..وتدعو لأمرين حاسمين أولهما: إنشاء تحالف روسي-صيني-هندي لمواجهة الهيمنة الأميركية، ثانيهما: المعارضة الشديدة لتوسع حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا..لكن السيد بريماكوف أخفق في إنفاذ مبادئه..ببساطة روسيا كانت أضعف بكثير من أن تأخذ خطوات مماثلة..بل بالعكس مساعيها للتقارب مع الصين كان في جانبه الآخر انعكاس للضعف الروسي القاهر في مواجهة قوة جديدة ناشبة، حينما قبلت روسيا بمعاهدات تسوية حدودية أجبرتها علي التنازل عن مئات الكيلومترات مقابل تسوية الخلاف التاريخي بين الأخوين الشيوعيين في أعقب واقعة جزيرة دامانسكي علي نهر إيشوري عام 1969 والتي كادت تؤدي لحرب نووية بينهما، وذلك مقابل مساعدات صينية بقيمة نصف مليار $.
ثم أتى فلاديمير بوتين..وصاغ عقيدة حاكمة للسياسة الخارجية الروسية والتي سُتعرف لاحقًا ب ‘‘‘العقيدة الأوراسية‘‘ يتحلّل فيها من التوجهات الأطلسية ويعلن عزم روسيا استعادة مكانتها الدولية ويقفز علي الحصار الجغرافي الذي أطبقته عليه واشنطن بإنضمام دول شرق أوروبا للناتو صوب آسيا الوسطى والصين..مبدأ بوتين الجديد تضافر مع العوائد النفطية الهائلة وتحديث القوة العسكرية ليطلق ثلاثتهم مجتمعين ابتداءً من 2007 روسيا البوتينية التي عبّرت عن نفسها لأول مرّة في مؤتمر ميونخ للأمن..روسيا تلك تمردت علي ميراث الإنكفاء اليلتسيني وخرجت لأول مرة من جغرافيتها المعزولة أميركيًا صوب فضاءاتها الحيوية التاريخية..في آسيا الوسطى عادت بقواعدها العسكرية لطاجيكستان بعد رفع الإتفاق مع رئيسها إمام علي رحمانوف علي شطب ديون بلاده البالغة 250 مليون $، ثم وسعت حضورها في الجارة قرجيزستان بتفاهمات مع عسكر أكاييف، ثم استغلت الصدام الأميركي-الأوزبكي علي خلفية إنتقاد واشنطن لقرار الرئيس كريموف بفض تجمّعات أنديجان 2005، فقام كريموف بإغلاق القاعدة العسكرية الأميركية التي أنشئت لإستخدامها كقاعدة لقصف أفغانستان، وبغلقها عادت روسيا عسكريًا إلي أوزباكستان.
صوب الصين تحرك بوتين في تجمع شنجهاي، وصوب العالم النامي في تجمع البريكس..وكان أول إعلان فعلي لصعود القوة العسكرية الروسية هو معارضة الدرع الصاروخي الأميركي في بولندا، ثم الحدث الأبرز في 2008..في بداية العام..خالفت واشنطن القانون الدولي واعترفت بانفصال أحادي الجانب من قبل كوسوفو التي تتمتع بالحكم الذاتي، ولم تمر سوي ستة أشهر، قبل أن ترد روسيا في حرب الأيام الخمسة بقصف جورجيا وانتزاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية والإعتراف بهما كدول مستقلة من طرف واحد..سلاح العسكرية تضافر مع الطاقة علي مستويين الأول هو تهديد أوروبا بقطع الغاز عن بيلاروسيا وأوكرانيا، وتعميق الإعتمادية الأوروبية علي الطاقة الروسية بتوقيع عقد مع ألمانيا لنقل الغاز عبر خط السيل الشمالي..القوة الروسية المتنامية ستعبر عن نفسها بصورة أكثر ضراوة في احتلال القرم عام 2014 وتقوية التمردات المحلية في لوجانسك ودونيتسك..وبالطبع ستأتي سوريا في المرتبة التالية لتمديد النفوذ الروسي إلي المياه المتوسطية وانتزاع قواعد بحرية لطالما حلم بها منظروها العسكريون في طرطوس واللاذقية.
لو سألت أحدهم ليلة الرابع والعشرين من فبراير 2022 عن قدرة أوكرانيا علي الصمود في مواجهة آلة حربية روسية ساحقة..لأجاب أكثر المتفائلين ‘‘ ربما أسبوع‘‘ قبل أن تسقط كييف..روسيا في حملتها الأوكرانية الأخيرة بلغت ذروة الغرور العسكري..لكنه غرور قوة غير مجرّبة..الحرب الجورجية لم تكن أكثر من استعراض ساحق للقوة الجوية علي غرار Blitzkrieg الألمانية في الحرب العالمية الثانية، حرب القرم كانت نموذجًا استحداثيًا لحرب هجينة استخدمت فيها الأدوات غير التقليدية وحروب الإعلام والمعلومات وأنماط من الحروب اللاتماثلية.والتدخل في سوريا اعتمد بالأساس علي قوة جوية ساحقة وجنود من فاجنر وشرطة عسكرية لتسيير الأمور وتبادل الأسرى وتنظيف آثار القصف الجوي…وكل تلك الحروب الثلاث تمت في أوهن فترات الولايات المتحدة في السياسة الخارجية..نهاية حقبة بوش الإبن المنشغل في حربين عبثيتين في أفغانستان والعراق، وبدايات حقبة أوباما الساعي لتخفيف التوتر الذي خلفته إدارة الجمهوريين، وتخفيض أكلاف التورط العسكري الخارجي نسبيًا لصالح تمويل البرامج الإجتماعية الحمائية..وآخر ما كان يحتاجه هو التورط مع موسكو في مسار صدامي، يتجاوز عقوبات محتملة اقتصاديًا علي النخب الروسية مقابل إطلاق مسار سياسي في مينسك.
لكن ما إن وضعت القوة العسكرية الروسية في مواجهة ميدانية حقيقية بحرب تقليدية تدفع فيها بمائة وخمسين ألف جندي وآلاف القطع العسكرية لغزو بري لدولة مجاورة..ما إن وضعت روسيا في مواجهة ظرف قاهر جديد بتدخل أميركي غير مسبوق في السرعة وحجم الإمداد العسكري، وأمام تضامن أوروبي داخلي نادر بين المحاور التقليدية في الوسط (ألمانيا-فرنسا) والجنوب (البرتغال-إسبانيا-إيطاليا)، والشرق ( البلطيق وتجمع فيشجراد باستثناء المجر)..ما إن واجهت موسكو تضامن أطلسي (أوروبي-أميركي) تجاوز المصالح الألمانية الإنتهازية الضيقة بغاز روسي رخيص يؤمن توفير للإنفاق المحلي وتوجيه أعلى للصادرات..ما إن أظهر المقاتل الأوكراني عقيدة قتالية صلبة في الدفاع عن أرضه أمام جندي روسي تبدو الأسباب الأيدلوجية وحدها غير كافية لتعويض ترهل أدائه العسكري..ما إن تغيّرت كل السياقات الحاكمة للإنتصارات الروسية الخاطفة في جورجيا والقرم وروسيا حتي ظهر جليّا أمور ثلاث..
أن القوات المسلحة الروسية مترهلة إداريًا وتخطيطيًا، وأن تفوق بوتين الأوحد علي يلتسين هو أنه أجاد إخفاء أزمات القيادة والقرار والإعداد خلف ستار الحرب الخاطفة واستعراض ‘‘الأسلحة الكبيرة‘‘ في ساحات موسكو الحمراء..أن العقيدة الفردية للمقاتل الروسي لم تتجاوز ميراث الحقبة البرجينيفية، جندي مجهز بعدّة قتالية ماحقة، لكن ليس كأجداده في الحرب الوطنية العظمى، يدافع عن وجود الأمة السلافية متحملًا في ذلك سطوة ستالين المريرة وحملات تطهيره الأكتوبرية وحصون موته في سيبيريا، وإنما هو الجندي المحكوم بشكوك الحقبة الأفغانية حول ضرورات الوجود الإمبراطوري الروسي من الأساس..أن العقيدة البوتينية بذاتها تنطوي علي سوء تقدير استراتيجي فادح في كل رهاناتها الطاقوية الأوروبية، والتعاونية الصينية، والتمددية الأوراسية، وأن الشراكات المبنية علي الإبتزاز والتهديد المشترك والإذعان..كلها غير كافية للتعويض عن غياب نموذج روسي جاذب منافس للنموذج الحضاري الغربي.
خسائر روسيا تتضاعف في الميدان وفي ست أشهر انتقلت من طابور عسكري مهيب صوب كييف، إلي حصار أوكراني متزايد لمناطقها المنضمة حديثًا للإتحاد الروسي في الشرق، في خاركيف وخيرسون وزابورجيا، حتي وصل الأمر لتدمير مفخرة بوتين، جسر كيرتش الذي تكلف 7 مليار $، ويعتبر منفذ القرم البري الوحيد علي الأراضي الروسية في كراسنودار..والأيام القادمة ستكون بالغة الصعوبة للعالم بأسره..خصوصًا عندما تدفع روسيا خلال شهر ب 300 ألف جندي بعد التعبئة الجزئية..والأنظار مصوبة حول الأثر الذي يمكنهم إحداثه في إعادة القوات الأوكرانية لما وراء الحدود الإدارية الروسية الجديدة..وحال ما أخفقوا..وحال ما تقدمت أوكرانيا لخطتها الطموحة بتحرير كل أقاليمها المحتلة..ستكون روسيا وقتها أمام خيارين..إما الأمان النووي للعالم..أو روسيا المعزولة المنهزمة وربما المفكّكة..وكلفة الأمر جنونية فقط عند التصور..ما بالك بوقوع الأمر !
*** ختامًا :- الأدبيات التي استند إليها البوست ***
– تستطيع الوقوف علي تفاصيل أكثر في شأن تحولات العقيدة الروسية، عند العودة إلي ثلاث كتب..
1- رسالة الدكتوراة التي أعدّها الباحث ‘‘بوستي توفيق‘‘ في كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، تحت عنوان ‘‘ توجهات السياسة الخارجية الروسية نحو دول أوروبا الشرقية: دراسة حالة أوكرانيا‘‘ وبالأخص المبحث الأول من الفصل الثاني تحت عنوان ‘‘التطور التاريخي للسياسة الخارجية الروسية تجاه دول أوروبا الشرقية‘‘.
2- كتاب بافل باييف، الصادر عن ‘‘مركز الإمارات للدراسات السياسية والإستراتيجية‘‘ تحت عنوان ‘‘القوة العسكرية وسياسة الطاقة: بوتين والبحث عن العظمة الروسية‘‘ وبالأخص الفصل الرابع من القسم الثاني ‘‘ تقاطر عائدات النفط علي المؤسسة العسكرية‘‘.
3- كتاب وسيم خليل قلعجية..روسيا الأوراسية: زمن الرئيس فلاديمير بوتين
4- أما بشأن الغواصة ‘‘كورسك‘‘ ، فأحيل القاريء إلي كتاب كبيرة الباحثين بمعهد كارنيجي موسكو، ليليا تشيفستوفا، تحت عنوان ‘‘روسيا بوتين‘‘ وبالأخص الفصل الرابع ‘‘لحظة الحقيقة‘‘ ص.ً 137-173.
تحليل مهم جدا في فهم السلوك والمأزق الروسي، ومسار روسيا المعاصرة، ودور زعاماتها المتتالية الذي أدى إلى هذا المأزق.
خطر انتصار روسيا المستعصي جدا، وخطر هزيمة روسيا المتوقع والمزلزل.
د. مخلص الصيادي
*******************
المصدر: صفحة د- مخلص الصيادي