د- عبدالله تركماني
من أجل الفهم المسؤول لمعاني الديمقراطية والإدراك الواعي لمتطلباتها ونقاط القوة والضعف فيها نستدرك فنقول إنّ خطرين يحدقان بها: أولهما، إعطاؤها تعريفاً جامعاً مانعاً، يؤدي إلى اعتقالها، ويمنع تطورها ونموها ومن ثم إلى قتلها، كما حصل مع قيم إنسانية أخرى. وثانيهما، عدم الاتفاق على معايير أساسية لتحديد ماهيتها ومتطلبات تحقيقها لذلك، نقول: إنّ الديمقراطية هي شكل ممارسة الحرية في المجتمع والدولة، انطلاقاً من أنّ الإنسان/الشعب هو محور العالم ومقياس القيم، باعتباره صانع تاريخه وسيد مصيره. فالشعب هو مصدر السلطة ومالكها، يمارسها من خلال هيئاته النيابية. والدستور هو عقد اجتماعي يمثل أساس الشرعية ويتطلب حمايته من أية انتهاكات تهدد الصفة المدنية الديمقراطية للدولة.
وفي هذا السياق، فإننا نفرّق بين ثلاثة مستويات للديمقراطية: مستوى ينحصر في مجرد إقامة المؤسسات الديمقراطية، المتمثلة في المجالس النيابية والأحزاب وغير ذلك من هياكل المجتمع المدني والاكتفاء بإقامة ذلك ” الديكور ” الديمقراطي، الذي يوفر الشكل دون المضمون.
المستوى الثاني، يتمثل في أداء الوظيفة الديمقراطية عبر المشاركة والمساءلة الحقيقيتين، لأننا تعلّمنا من تجارب عدة، خصوصاً في عالمنا العربي، أنه من الممكن أن تقوم المؤسسات الديمقراطية، فتنشأ أحزاب وتُشَكَّلُ مجالس نيابية ويُفسح المجال لهامش من التعبير من خلال صحف المعارضة، ومع ذلك كله لا يتحقق الأداء الديمقراطي. إنه من الممكن أن تقام جميع الهياكل المطلوبة بينما تعطّل الوظيفة تماماً، فلا تتوافر المشاركة في القرار السياسي، ولا يتاح لممثلي الشعب حق مساءلة السلطة التنفيذية. وتعتبر سورية النموذج العربي الأبرز التي ينطبق عليها التوصيف السابق، إذ إنّ ما يسمى ” مجلس الشعب ” دوره التصفيق لقرارات رأس النظام.
المستوى الثالث، ينصبُّ على شيوع القيم الديمقراطية، وأهمها قيمة التسامح السياسي وتداول السلطة واحترام حقوق الإنسان وغير ذلك. لأنه من الممكن أن تقوم الهياكل وتؤدى الوظيفة، بينما يفتقد المجتمع تلك القيم التي لا تستقر إلا بمضي الوقت واستمرار الممارسة وتوفر النموذج الذي يرسخ القيم الديمقراطية والسلوك الحضاري بين أبناء المجتمع.
إنّ التفكير في الديمقراطية كضرورة ملحة يتطلب البحث عن عوائقها التي تحول دون تأسيس مجتمعات عربية ديمقراطية، فإذا رجعنا إلى المنظومة الفكرية التي كرستها المرجعية الثقافية العربية، نجد أنها مرتكزة على بنية التشابه، بما يعنيه هذا المصطلح من تأسيس للنمطية، وتكريس لما هو قائم بالفعل. وهذا التصور الوظيفي يتعارض مع مفهوم الديمقراطية القائم على بنية الاختلاف وليس الخلاف بمفهومه السجالي.
ومن العوائق الأخرى التي تحول دون بناء الديمقراطية أيضاً سيادة مبدأ الإجماع، وخطورة هذا التصور تكمن في إقصائه لمبدأ العمل بالأغلبية، والأدهى من ذلك أنّ ديمقراطية التزييف في العديد من الدول العربية تستغل مفهوم الإجماع باعتباره موروثاً للبنية الذهنية العربية، وتمرر من خلاله نتائج انتخاب الحكام (100% أو 99,99%)، أو نتائج استفتاءات الرأي حول قضايا الوطن المصيرية.
وثمة عوائق موضوعية تجد مرجعيتها لا في البنية الذهنية، أو الموروث اللاشعوري، وإنما في الوضع الداخلي الملموس، خاصة تأثير البنى التقليدية في المجتمع ومحدودية تأثير الطبقة الوسطى، أو في الظرفية الخارجية وطبيعة النظام الدولي.
- – على صعيد البنية الداخلية للبلاد العربية، نجد أنّ الذي يسود فيها اقتصاد ريعي، فالمداخيل التي تفعّل دواليب الاقتصاد العربي مصدرها ليس نتيجة لمجهود بشري فعّال، وإنما بمثابة هدية من باطن الأرض. لقد تحول النفط من أداة لتسهيل الديمقراطية إلى معيق لها، من أداة لتحقيق كرامة الإنسان إلى أداة لتركيعه وإذلاله، كيف ذلك؟
أ – تعمل السلطات الحاكمة في الدول الريعية على محاربة الأفكار الديمقراطية داخل بلادها وخارجها أيضاً، فهي تخاف من تشبّع الشعب بروح الديمقراطية، لأنّ من شأن ذلك أن يدفع بالمواطنين إلى محاسبة المسؤولين حول مصير العوائد النفطية وغيرها من الموارد الباطنية، وأين تُصرف، وكيف تُوزَّع؟ وهل هي تخدم المصلحة الوطنية أم تُستغل لخدمة أهداف ذاتية أو أهداف دول أخرى؟
ب – تحارب سلطات الدول الريعية أية تجربة ديمقراطية مجاورة، أو أي بلد عربي يحاول أن يوفر على الأقل الهامش الديمقراطي لمواطنيه.
ج ـ تكرس سلطة الدولة الريعية مفهوم اللامساواة بين أبناء الوطن الواحد، فالمرأة على العموم تُعتبر كائناً استثنائياً خارج إطار الحقوق الإنسانية المعروفة. وحرمان المرأة من حقوقها المدنية والسياسية من أكبر العوائق التي تهدد سلامة الديمقراطية في العالم العربي جميعه، فحتى مصر البلد الذي انطلقت منه فكرة تحرير المرأة انتقلت إليه عدوى الرؤية المتلبسة بثياب الدين.
- – أما على صعيد الظرفية الخارجية، فعلى الرغم مما يروج له عالمياً من كون النظام الدولي الجديد، الذي تطبل به وسائل الإعلام الغربية، يبشر ويدعو إلى احترام حقوق الإنسان، ويسهر على انتشار الديمقراطية في كافة أرجاء المعمورة، بل ويمارس ضغطاً على الحكومات التي يعتبرها ديكتاتورية، فإنه وللأسف الشديد نجد أنّ الدول الغربية، في كثير من الأحيان، إنما تستعمل مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان للضغط على الشعوب وإذلالها عوض تحقيق الكرامة الإنسانية، فهي تتلاعب بالقيم الإنسانية لتمرير مخططاتها، وتحقيق مصالح جديدة في بقاع أخرى من العالم أو على الأقل للحفاظ على مصالحها القديمة.
إنّ الديمقراطية تعني الحوار، والاعتراف بالآخر، والاعتراف بنسبية الحقيقة واحتمال خطأ الذات، واحترام الرأي الآخر والاستماع إليه والتفاعل معه، وعدم تكفيره وإدانته أو الوشاية به لدى السلطات كأنه خيانة عظمى. وقد أرجع الدكتور حسن حنفي، في بحثه الشّيق والعميق عن ” الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر “، أزمة الديمقراطية إلى غياب الحوار، وحصر جذور أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر في خمس مجموعات:
(1) – حرفية التفسير: التي تلغي الحرية لصالح الالتزام بحقيقة مطلقة مسبقة، مكتوبة بصياغة واحدة أبدية، وتوحد عقلية السلطة السياسية مع السلطة الدينية ضد الإنسان، إذ تعتمد كلتاهما على التنزيل: تنزيل الأمر من السلطة إلى الشعب، وتنزيل المعرفة من السماء إلى الأرض، وتلغيان بالتالي حق المراجعة والمناقشة والحوار.
(2) – تكفير المعارضة: الذي شاع منذ انتشار الأحاديث الموجهة للسلوك والأذهان، وخاصة الأحاديث الموضوعة لغايات سياسية وأيديولوجية واجتماعية كحديث ” الملة الناجية “، وأصبحت ” كل الفرق الضالة هي كل أنواع المعارضة للسلطة القائمة كما أصبحت الفرقة الناجية هي حزب الحكومة “.
(3) – سلطوية التصور: في هذا التصور تختفي الإرادة الإنسانية، ويتوارى العمل والعقل ويتحدد الإنسان بالإيمان الذي لا يخالطه ويساوره الشك. ومن هذا التصور تنبع فكرة الزعيم الأوحد والمنقذ الأعظم والقائد الملهم.. إلى الأبد والضرورة التاريخية والحاكم الفردي الذي لا تني الشقة تزداد اتساعاً بينه وبين المحكومين، وبقدر ما يزداد صلفاً وتكبراً وغطرسةً وعسفاً يزداد المحكومون إصغاراً وذلاً وهواناً. إنه تصور يعطي القمة كل شيء ويسلب من القاعدة كل شيء، بل يسلب من القاعدة كل شيء ويعطيه للقمة. هذا التصور يقسم البشر إلى خاصة، أو علية القوم، وسادة، وسراة وأشراف ونقباء.. الخ من جهة، وإلى عوام ورعاع ودهماء وسواد الناس… الخ من جهة ثانية.
(4) – تبرير المعطيات: إذ إنه إزاء العقل، ذي المصدر الإلهي، يستحيل الحوار، لأنّ المعطيات مقبولة سلفاً ولا توضع موضع الشك والنقد.
(5) – هدم العقل: فمنذ كان الهجوم على العلوم العقلية، في القرن الخامس الهجري، بدأ هدم العقل واستقالته، وهو أداة الحوار.
وهنا تبدو المقارنة ضرورية بين مفهوم الديمقراطية وتطبيقه في العالم العربي مع تطور هذا المفهوم وتطبيقه في أوروبا: عملية التحوّل نحو الديمقراطية في أوروبا ترافقت مع عملية فصل الدين عن الدولة، إنّ طبيعة وضرورات هذا الفصل يحتاج إلى شرح طويل ليس هنا مكانه، لكن هذا الفصل لا يعني بأي شكل هجوماً على الدين، وإنما يعني أنّ حيادية الدولة عن كل الأيديولوجيات تعطي فرصة أكبر ومجالاً أوسع للأفكار بمختلف اتجاهاتها للتحرك والحوار في سبيل أحسن الحلول الممكنة لمشاكل المجتمع.
كما أنّ الاتجاهات الفكرية والسياسية التي ترافقت مع التحولات في أوروبا كانت لها برامجها الشاملة في مسائل وقضايا المجتمع ومنها مسألة الديمقراطية، بينما للأسف فإنّ التيارات الفكرية والسياسية في العالم العربي لم تأخذ على عاتقها مهمة تعميم مفهوم الديمقراطية وممارسته فيما بينها كمفهوم مهم لتطورها، كما أنها لم ترسم الخطط العملية لنقل هذا المفهوم إلى حيّز التطبيق الفعلي.