فايز سارة
يعتقد البعض أن اندلاع الاشتباكات الأخيرة في مناطق الشمال الغربي من سوريا، والمعروفة باسم مناطق السيطرة التركية، كان سببه اغتيال الناشط محمد أبو غنوم وزوجته في مدينة الباب شرق حلب، من قِبل مجموعة تتبع إحدى الجماعات المسلحة، وهو اعتقاد يتجاوز أسباباً جوهرية، تشكّل أساساً لانفجار الوضع في المنطقة، كان اغتيال أبو غنوم أحد أبسط مؤشراتها، حيث إن مناطق الشمال الغربي شهدت على مدار السنوات الأخيرة تفجيرات، واغتيال ناشطين وإعلاميين، وكوادر لعبوا أدواراً مهمة في تجارب فصائل «الجيش الحر»، من دون أن يؤدي أي منها إلى اندلاع مواجهات مسلحة واسعة، كما حصل أخيراً.
يرتبط انفجار الصراع الأخير، بما صارت إليه أوضاع الشمال الغربي من انسدادات سياسية في إجمالي القضية السورية وفي المنطقة، التي تدهورت أوضاعها الأمنية والاقتصادية – الاجتماعية بشكل غير مسبوق، كما يرتبط الانفجار بسياسة تركيا السورية وسعيها نحو ترتيب منطقة الشمال، من أجل تنفيذ خططها بإعادة مليون ونصف مليون سوري «طوعياً» من تركيا، وإدخال تعديلات على خطة تركيا في مواجهة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شرق الفرات، بعد أن أصبحت عملية تركيا هناك طي النسيان.
تشمل منطقة شمال غربي سوريا بشكل أساسي أجزاء كبيرة من محافظتي إدلب وحلب، ويسكن فيها أكثر من أربعة ملايين نسمة موزعين بين أهالي المنطقة، والوافدين من محافظات أخرى، ومهجري التسويات من محافظات الوسط والجنوب، وتتوزع السيطرة في المنطقة بين جماعات حليفة ومقربة من تركيا، إضافة إلى وجود عسكري تركي مباشر، والقسم الرئيسي من الجماعات المسلحة منتظم في تحالف شكلي باسم «الجيش الوطني»، يتبع اسمياً وزارة دفاع الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف السوري، وتشكّل «هيئة تحرير الشام» ذات الارتباط الآيديولوجي بتنظيم «القاعدة» قوة السيطرة الرئيسية في المنطقة، سواء من خلال ميليشياتها، أو من خلال حكومة «الإنقاذ» التابعة لها، وأدى التركيب المعقد للمنطقة مع عوامل أخرى إلى تحولات في واقع المنطقة وحياة سكانها.
ففي المستوى السياسي، لا تملك المنطقة أي مشروع سياسي، حيث الائتلاف وحكومته، ومثلهما التشكيلات المسلحة، يعتاشون على الواقع اليومي، فيما تقف عوامل موضوعية قوية وكثيرة في مواجهة مشروع «هيئة تحرير الشام»؛ إقامة دولة إسلامية. وخلافاً لذلك، فإن نظام الأسد لديه مشروع إعادة كل سوريا إلى سيطرته، وقوات «قسد» تسعى إلى تعميم مشروع الإدارة الذاتية في عموم سوريا.
وبسبب غياب المشروع السياسي في الشمال الغربي، أو استحالة فكرته، كان من الطبيعي أن يتركز جهد قوى السيطرة المباشرة هناك (وخاصة الجماعات المسلحة) في الصراع على النفوذ والموارد، والأهم في الأخيرة إمساك المعابر المفتوحة نحو الجوار، ويمتد حبل الموارد، حيث يشمل ممارسة أنشطة غير شرعية، فيها فساد واستغلال نفوذ ومناصب، وفرض خاوات، واستيلاء على ممتلكات الأهالي، و«تعفيش» مواسم زراعية، ورعاية تجارة المخدرات.
وفي المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإن الأوضاع ازدادت تدهوراً في ظل غياب أو انخفاض الاهتمام بالتنمية الاقتصادية – الاجتماعية، وغياب الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية، نتيجة عوامل متعددة، أولها غياب الاستقرار السياسي والأمني، وتواصل أخطار القصف من جانب النظام وحلفائه، أو من جانب ميليشيات «قسد»، وكلها عوامل لا تشجع أصحاب المال ورواد الأعمال على الاستثمار والعمل في ظل نقص الخبرات المحلية التي هاجر كثير منها، وعدم توفر المواد الأولية المحلية، فيما أسعار المواد المستوردة من تركيا مرتفعة.
وساعد وجود التشكيلات المسلحة والبنى التابعة لها، ووظائف الإدارات الحكومية والمدنية، في توجّه القوى العاملة للانخراط في أعمال الإدارة، بدل الذهاب نحو القطاعات الإنتاجية المتعبة، أو إقامة مشاريع خاصة غير مضمونة النتائج، كما شجّع نشاط الجمعيات المدنية والإغاثية على توجّه كثيرين إلى قطاع الخدمات، ودفع أوساطاً من السكان للامتناع عن العمل، والاعتماد على المساعدات لتلبية احتياجات أسرهم المعيشية.
وأدى ما سبق، وظروف أخرى، إلى تزايد صعوبات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتنامي الظواهر السلبية؛ من بطالة وفقدان الأمل، وانتشار المخدرات، بالتزامن مع الغلاء وانخفاض قيمة العملة السورية، ثم التركية، التي جرى التحول إلى استخدامها. وبالنتيجة، فإن الفقر صار ظاهرة أكثر شيوعاً في المنطقة، حيث إن أكثر من تسعين في المائة من السكان موصوفون بالفقر، حسب أرقام المصادر الدولية.
إن تدهور حياة سكان الشمال الغربي، يتجاوز المؤشرات السابقة نحو دلالات أخرى عميقة التأثير، منها شيوع الفساد، وتردي مستويات المسؤولية العامة، وتوسع نفوذ المؤسسات العسكرية – الأمنية والعاملين فيها، وشيوع استعدادهم لفتح معارك وصراعات بينية لأتفه الأسباب، وتراجع التعليم وتردي نوعيته، ومحدودية الخدمات الصحية وانخفاض مستوياتها، وغياب القانون والمحاكم التي تعمل به، وشيوع المحاكم الشرعية التي تماثل المحاكم الاستثنائية لدى نظام الأسد، في اعتمادها على قدرة وتوجهات القائمين عليها، وليس على نص قانوني محكم.
واقع الحال في شمال غربي سوريا يعيد إلى الأذهان صور المناطق المحاصرة في التجربة السورية، ولا سيما غوطة دمشق، التي كان النظام يحاصرها من كل الاتجاهات، لكن جماعاتها المسلحة لم تكن تتوقف عن خوض الصراعات البينية، وأكبرها «جيش الإسلام» الطامح نحو بناء دولة إسلامية، تخضع في الطريق إليها كل الجماعات المختلفة المسلحة والمدنية، ولم يكن يتأخر عن قتل واعتقال وخطف الناشطين الذين يعارضونه، مهما كانت حدود معارضتهم.
وضع الشمال الغربي يقارب حالة الغوطة في ظل الحصار؛ إذ إنه محاط بمنطقتين معاديتين: أولاهما منطقة سيطرة نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين وميليشياتهم، وقوات «قسد» من جهة أخرى، وهي المصنفة من جانب الأتراك والجماعات الحليفة باعتبارها عدواً، كما هو حال مناطق النظام، لا يمكن المرور إليها أو عبرها. وتمثل تركيا الجار الثالث للمنطقة، وهي تمنع على طول حدودها سكان الشمال الغربي من العبور إلى أراضيها، بل تعمل على خطط هدفها ترحيل سوريين من المقيمين فيها إلى المنطقة.
الأهم في وضع الشمال الغربي، أنه رغم العلاقات الوثيقة التي تربط المسيطرين بقوة الأمر الواقع مع تركيا، فإن بينهم صراعاً عميقاً، يحاول كل منهم كسبه بكل وسيلة، وأكثرهم سعياً «هيئة تحرير الشام»، التي حافظت على وجودها وتمددت، ودمرت على مدى سنوات جماعات من «الجيش الحر»، مثل «جبهة ثوار سوريا»، وابتلعت أخرى من جماعات إسلامية، بينها «أحرار الشام»، وسعت في الاشتباكات الأخيرة إلى ابتلاع «الجبهة الشامية»، واحتلت عفرين، ليس فقط رغبة في التمدد والانتشار، بل لتثبت للأتراك أنها أقوى وأفضل من القوى الأخرى، وأنها شريك يمكن الاعتماد عليه، ليس فقط في فرض سيطرتها على المنطقة، بل أيضاً بما يمكن أن تلعبه من أدوار محتملة في تطورات القضية السورية، وصراع تركيا مع «قسد»، وكلها أمور تحوز رضا أنقرة، التي أعيتها مشكلات حلفائها الضعفاء من «حمزات» و«عمشات» وغيرهم في الشمال الغربي.
ما جرى مجرد بروفة أخيرة بانتظار أن تقرر تركيا كيف تتطور الأمور هناك في المرحلة المقبلة!
المصدر: الشرق الأوسط