معقل زهور عدي
نشأت ” الثورة العربية الكبرى ” في الحجاز كتمرد لشرافة مكة على الدولة العثمانية , فشرافة مكة رغم ضعف القوى العسكرية التي كانت تحت تصرفها لكنها كانت عميقة الجذور الاجتماعية في الحجاز , لأسباب تاريخية ودينية وقبلية , لذلك لم تحاول الدولة العثمانية بعد أن بسطت سلطتها على الحجاز المس بامتيازات تلك المؤسسة شبه الملكية لمئات السنين , واكتفت بضمان ولائها للدولة , لكن العلاقة بين شرافة مكة والدولة العثمانية تبدلت بعد أن أمسكت جماعة الاتحاد والترقي بالسلطة في استانبول , ويبدو أن حكومة الاتحاد والترقي ذات التوجهات القومية والعلمانية الغربية لم تكن مقتنعة بمنح شرافة مكة تلك الامتيازات التي تجعلها سلطة موازية لسلطة الدولة في الحجاز , فبدأت تسير بطريق دعم سلطة الوالي العثماني على الحجاز على حساب سلطة ونفوذ شرافة مكة . وعندما شعر الشريف حسين أن الأمور ستنتهي بسلبه حكم الحجاز وتصفية نفوذ مؤسسة شرافة مكة تولدت لديه فكرة الثورة واستقلال الحجاز بدعم وتشجيع من الحكومة البريطانية , لكن عقد التخادم بينه وبين بريطانيا كان يتضمن شرطا مقابل دعمه بالسلاح والمال وحتى بالقوى العسكرية والتدخل المباشر , وهذا الشرط هو هو خدمة المجهود الحربي البريطاني ضد الدولة العثمانية التي أصبحت في خانة الأعداء مع بدء الحرب العالمية الأولى. ليس واضحا تماما كيف ومتى تبدل هدف الثورة من استقلال الحجاز كماعبر عن ذلك اعلان الثورة في حزيران عام 1916 إلى هدف انشاء دولة عربية تضم الجزيرة العربية والشام والعراق , لكن مراسلات حسين مكماهون اعتبارا من النصف لثاني لعام 1915 تضمنت ذلك الهدف على نحو تفصيلي بالتالي فربما يتوجب علينا الاقرار بوجود ذلك الهدف بصورة مضمرة قبل اعلان الثورة عام 1916 وحسب العقلية البراغماتية للشريف حسين وابنه فيصل فتحقيق ذلك الهدف النهائي أي إنشاء دولة عربية كبرى يمكن أن يمر بمراحل , وأول مراحله هو إعلان الحجاز مملكة عربية مستقلة , ثم التطلع إلى توسعة تلك المملكة لتضم بلاد الشام والعراق وباقي الجزيرة العربية بالتحالف مع انكلترا وبمساعدتها العسكرية والسياسية . وفي حين كانت بلاد الشام تزخر بالمفكرين والسياسيين القوميين العرب وتشهد نموا في المنظمات العلنية والسرية تحت مسميات الجمعيات , وتتبلور مطالب تلك الحركات شيئا فشيئا باتجاه الاستقلال فقد كانت عاجزة عن ايجاد قوى عسكرية تستند إليها , وقد رأينا كيف أن عبد الحميد الزهراوي قد فكر مبكرا بالاستناد إلى ” عرب الجزيرة العربية ” , وبسبب بعد المسافة بين مركز الدولة العثمانية والحجاز وما كانت تتمتع به من استقلال ذاتي نسبي فقد أصبحت كما مصر ملجأ للناشطين الهاربين من بطش الحكومة الاتحادية وبعد أن أعلن الشريف حسين الثورة تطورت تلك العلاقة بسرعة إلى أن حدث نوع من الاندماج بين الثورة الحجازية والحركة القومية العربية وسمح ذلك بدخول الأمير فيصل لدمشق كمحرر ثم كملك عربي للملكة العربية السورية وسط ترحيب واسع النطاق . لكن ارتباط ” الثورة العربية ” بالدوائر البريطانية كان قد وصل إلى مستوى لم يعد من خلاله بإمكان الشريف حسين أو الأمير فيصل أو أي من أولاده الاعتراض على الارادة السياسية للدولة البريطانية العظمى التي تدخل جيشها مباشرة في المعارك ضد العثمانيين , واستطاع ذلك الجيش بأسلحته المتطورة وقيادة الجنرال اللنبي تحطيم الجيش العثماني في المعركة الفاصلة التي حدثت في سهل مجدو في فلسطين عام 1918وأدت إلى انسحاب الجيش العثماني نحو شمال بلاد الشام ثم بعد ذلك إلى داخل حدود تركيا الحالية . وبينما كانت الحركة القومية العربية في بلاد الشام تهدف إلى الاستقلال التام وترحب بدولة عربية كبيرة واحدة تضم الجزيرة وبلاد الشام والعراق وتقف ضد أي إلحاق أو استعمار غربي , فقد ظهر لاحقا الفرق بين طبيعة تلك الحركة بمجملها مع استثناء أقلية صغيرة داخل المسيحيين اللبنانيين الذين رحبوا بالاستعمار الفرنسي فيما بعد , وبين قيادة ” الثورة العربية الكبرى” التي تورطت في علاقة ذات طابع استراتيجي مع الدوائر البريطانية لاتترك سوى هامش محدود في الخيارات السياسية المصيرية . يقول البرت حوراني في كتابه ” الفكر العربي في عصر النهضة ” حول موقف فريق من اللبنانيين الموارنة : ” …لذلك نادوا باستقلال لبنان التام تحت الحماية الفرنسية , على أن توسع حدوده وتكون بيروت عاصمته ” – الفكر العربي في عصر النهضة – ص 345 فبعد أن هلل العرب السوريون لدخول جيش الشمال العربي لدمشق وللأمير فيصل الذي أصبح لاحقا ملك المملكة العربية السورية وتفتحت أمانيهم وانتعشت أحلامهم بالاستقلال والوحدة العربية عادت فتحطمت بعد سنتين حين طلبت انكلترا من الملك فيصل مغادرة دمشق والاذعان لإنذار الجنرال الفرنسي غورو القادم بجيشه من لبنان للاستيلاء على سورية حصة فرنسا كما رسم اتفاق سايكس بيكو. وبدلا من أن يرفض الملك فيصل تلك الأوامر بشرف ويختار المقاومة دفاعا عن مملكته وعن وطنه , كما فعل وزير الدفاع يوسف العظمة , اختار الانصياع للارادة البريطانية والتخلي عن منصبه والخروج من سورية . نحو أوربة لأجل مراجعة الحكومة البريطانية , والتشكي لها من التجاوزات التي قامت بها فرنسا في اقتحام الجيش الفرنسي دمشق والمدن السورية وفرضه شروط استسلام على سورية , بما في ذلك إلحاحه على إنهاء المملكة العربية السورية وخروج فيصل من سورية . طلبت انكلترا من الملك فيصل عدم مواجهة الفرنسيين إطلاقا , وتهدئة الشعب السوري , في تفاهم سياسي مع فرنسا لتنفيذ اتفاق سايكس بيكو , وهنا كان أمام الملك فيصل خياران : إما الدفاع عن مملكته الوليدة والانضمام لصفوف الوطنيين السوريين في رفض الانتداب الفرنسي والشروع بمقاومة ذلك الاحتلال أو الخضوع للسياسة البريطانية التي عمل معها ومن خلالها طيلة السنوات الماضية , وترك سورية لمصيرها والذهاب لأوربة لمراجعة الموقف مع الحكومة البريطانية وتحصيل مايمكن تحصيله بسياسة التوسل والتذكير بالخدمات التي قدمتها الأسرة الهاشمية والعهود التي قطعتها بريطانيا للشريف حسين في مراسلاته مع مكماهون . لكن فيصل لم يتردد في الذهاب للخيار الثاني , فملك سورية بالنسبة له هو وظيفة وجائزة , وسورية ليست كل شيء , فهناك أسرته الهاشمية , وهناك مملكة الحجاز , فإذا سلبت منه سورية فالأمل أن انكلترا لن تتخلى عنه , وستعوضه عنها , ولديه في الدولة البريطانية أصدقاء نافذين وفي مقدمتهم لورنس , وغيرترود بل , والجنرال اللنبي وغيرهم . كتب فيصل إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا بعد خروجه من دمشق إلى حيفا ثم ايطاليا رسالة معبرة أقتطف منها التالي : قصر ايشتي – ايطاليا – 11 ايلول – 1920 ” لحضرة المستر لويد جورج رئيس الوزارة الانكليزية المحترم : ” “إن الأعمال غير الشرعية التي قامت بها فرنسا في سورية قد اضطرتني للسفر لأوربة موفدا من قبل والدي الملك حسين لأعرض القضية العربية مرة أخرى أمام حكومة صاحب الجلالة ” هكذا فاجتياح الجيش الفرنسي دمشق والمدن السورية ليس سوى عمل غير شرعي , وبماذا كان على الملك فيصل المعظم مواجهة هذا العمل غير الشرعي ؟ بترك سورية والذهاب لأوربة لمراجعة حكومة صاحب الجلالة !! ” فالأعمال التي قامت بها فرنسا ( يقصد احتلال سورية عسكريا ) تشكل خرقا لمعاهدة فرساي فقد أخذت فرنسا من العرب المنطقة الوحيدة التي تضم المدن العربية خلا الجزيرة العربية , وجعلت موقف عائلتنا أمام العالم الاسلامي عامة والعالم العربي خاصة موقفا لايمكن لعائلة احتماله , فعائلتي هي العائلة القائدة في جزيرة العرب ” ياعيب الشوم على فرنسا !! خجلت والدي وأحرجتنا باحتلال سورية ! ” ثم إذا سافرت أنا لباريس في شهر تشرين أول السابق وسعيت للمفاوضة مع الحكومة الفرنسية وعدت لسورية أحمل أحسن الرغائب للتفاهم مع الفرنسيين , ثم سعيت أن أجعل الشعب هادئا وأحول بينه وبين مهاجمة الفرنسيين عندما كانوا ضعفاء في سورية وكانت المصاعب في مملكتي تكتنفهم من كل حدب وصوب , ولم يكن لديهم في سورية سوى حامية تتألف بعض الأحيان من ألف رجل , إذا أنا فعلت هذا كله , فإنما فعلته كي أستطيع أن أقول ذات يوم للدولة التي أعطتني كلمتها أني نفذت التعليمات التي تلقيتها بكل دقة ؟” نعم هذا صحيح بإمكان فيصل أن يقول ذلك للسادة الانكليز , لكن ماذا بإمكانه القول أمام الأجيال العربية في موقفه المخزي حين كان يحمي الجيش الفرنسي في سورية ويضعف موقف الدولة ويشجع على مهاجمتها لاحقا من قبل غورو والجيش الفرنسي ؟ ” فقد كانت الكتب الرسمية التي تصلني من اللورد اللنبي تصر علي ملحة ألا أتخذ موقفا عدائيا من الفرنسيين , حتى إنني قد تلقيت برقية من اللورد كرزون قبل احتلال دمشق بثلاثة أيام يطلب فيه إلي بالحاح أن لا أتخذ أي موقف عدائي . ولهذا لم أفكر قط محاربة الفرنسيين ومقاومتهم , الأمر الذي كان يجعل موقف الفرنسيين في سورية صعبا للغاية لو أقدمت عليه , وفوق هذا فقد كنت أقبل دوما شروط الفرنسيين رغم أنها ممستحيلة , أملا أن أسافر فيما بعد إلى أوربة وأسوي المسألة فيها ” إذن كان يمكن مواجهة الجيش الفرنسي وتكبيده أفدح الخسائر , لكن فيصل عمل بكل جهد وإخلاص لإفشال أية مقاومة في مواجهة احتلال دمشق , بقي أن يقول : ولكن لم أتمكن من السيطرة على وزير الدفاع يوسف العظمة الذي خرج عن إرادتي وذهب لقتال الفرنسيين مع بعض الجنود والأهالي وأعتذر عن ذلك . لقد مثلت نهاية المملكة العربية السورية ودخول الجيش الفرنسي دمشق فاجعة كبيرة وخيبة أمل للسوريين العرب , وهي تعيد للحياة ما حذر منه الأمير شكيب أرسلان , وما تجاهله أو غفل عنه أركان الحركة القومية العربية في بلاد الشام حين لم يعطوا لخطر الاستعمار الغربي حجمه الحقيقي بينما انصرف كل تفكيرهم وعملهم للتخلص من ظلم حكومة الاتحاد والترقي العثمانية ونسوا الذئاب الاستعمارية التي تقف خلف الأبواب مترصدة فرصتها للانقضاض على المنطقة العربية وتمزيقها شر ممزق
. ملاحظة : نص رسالة الملك فيصل من كتاب ” أوراق الملك فيصل ” للكاتب محمد يونس العبادي – 2014 وهو بالمناسبة مكرس للثناء على الملك فيصل وابراز ” عظمته ” وانجازاته الخالدة.