إبراهيم درويش
نشرت صحيفة “أوبزيرفر” تقريراً عن “سرقة القرن” في العراق، أعدّته سيمونا فولتين، تساءلت فيه عن الطريقة التي اختفى فيها 2.5 مليار دولار من خزينة الدولة.
وقالت إن لغز اختلاس موارد الضريبة لم يحدث، على ما يبدو، بدون مساعدة جهات في المناصب العليا في البلد. وأضافت أن العراقيين أطلقوا عليها ” سرقة القرن”، وباتت حديث كل الناس في العراق.
ونقلت الصحيفة عن مصادر قولها إن عملية السرقة لم تكن لتتم بدون مساعدة مسؤولين بارزين. كما كشفت سلسلة من الرسائل الصادرة عن الحكومة، في صيف 2021، ووقعتها مؤسسات حكومية، بما فيها مكتب رئيس الوزراء في حينه، والذي ألغى عملية التدقيق على سحب الأموال من حسابات مصلحة الضريبة العراقية.
ولم تلفت الرسائل الانتباه في حينه، لأن العراق كان يشهد اضطرابات استمرت عامين، وكان يحضر للانتخابات المبكرة وعلق البرلمان.
وكان الإعلام والمجتمع الدولي مهتما بانتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2021، والتي جاءت بعد احتجاجات جماهيرية طالبت بالتخلص من النخبة الفاسدة في البلد.
وخلف الأضواء كان المسرح مهيئاً للاختلاس من موارد الضريبة ، فيما ستكون أكبر فضيحة فساد في ظل رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي المدعوم من الغرب، وهي فضيحة مثيرة للدهشة لبلد يأتي في آخر مؤشر قائمة منظمة الشفافية الدولية. وتم سحب أموال الضريبة، 2.5 مليار دولار، إلى حسابات شركات وهمية، وبدون أي وثائق تشير إلى الكيفية التي تم فيها تحويلها، وبمساعدة من مسؤولين فاسدين.
وهو ما بدا في تحقيق داخلي من 41 صفحة، اطلعت عليها الصحيفة، وتم غسل الأموال المسروقة عبر مشتريات عقارية في مناطق بغداد الراقية، حسب مصادر متعددة. وتقول الصحيفة إن خطة السرقة أشرف عليها رجل أعمال له صلات قوية، ونفذها موظفون في مصلحة الضريبة، والذين يحظون بدعم من فصيل مرتبط بإيران، هو “منظمة بدر”. إلا أن سرقة بهذا المستوى لم تكن لتتم بدون مشاركة أو معرفة كم واسع من المؤسسات الحكومية، بمن فيها مكتب رئيس الوزراء، والمصرف الذي سهل عملية سحب الأموال وهيئة النزاهة والمصرف المركزي، وحسبما تشير الوثائق المسربة، ومقابلات مع أكثر من مسؤول ورجل أعمال ومصرفي في العراق على معرفة تفصيلية بالقضية.
يقول عضو سابق في البرلمان: “إنها شبكة كبيرة، ويقف خلفها سياسيون كبار من النخب القوية التي تقود البلد. ولا يستطيع رؤساء الدوائر سرقة هذا المبلغ الكبير”، مضيفاً: “هناك اتفاق وكل طرف حصل على حصة”.
وفي محاولة للحصول على تعليق، قال مدير المكتب الخاص لمصطفى الكاظمي، أحمد نجاتي: ” الزعم بأن مكتب رئيس الوزراء صادقَ على عملية سحب أموال الضريبة، وسهّل بعد ذلك السرقة، مضلِّل”، وأضاف أن “إلغاء التدقيق المالي ليس مبرراً للسرقة”.
وأعلنت حكومة الكاظمي، المنتهية ولايتها، عن الفضيحة، وسط خلافات حول تشكيل الحكومة بين الفصائل الشيعية المتناحرة، ودعم الكاظمي حزب الزعيم الديني مقتدى الصدر ضد التحالف الهلامي بين الأحزاب الشيعية التي عارضته. وسيطر التحالف الأخير على السلطة بعد تعيينه محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء في 27 تشرين الأول/أكتوبر. وتبادل الطرفان اتهامات الفساد، حيث يتم استخدام التهمة لتشويه سمعة كل طرف بدلاً من ترسيخ النزاهة.
ويمارَس الفساد بالإجماع في ظل نظام المحاصصة الطائفية، حيث يتم تقسيم مراكز الحكومة بين الأحزاب المختلفة، والتأكد من حصول كل حزب على حصة من قطعة الكعكة، ومواصلة رعاية أنصاره. وتعمق النظام المتجذر في الدولة في ظل الكاظمي الذي فضله الغرب ودعمه وتعهّد بمواجهة الفصائل المسلحة. إلا أنه وبدون قاعدة دعم سياسي له لم ينجح في تحقيق ما وعد. وأصبح عرضة للتأثيرات من الجماعات المسلحة التي وعد بمحاربتها.
وقال موظف في مصلحة الضريبة: “زادت عمليات توزيع المناصب في ظل الكاظمي، وكانت الطريقة الوحيدة للبقاء في السلطة”. وزعم الموظف أن المصلحة كانت تتمتع باستقلالية واسعة قبل تولي الكاظمي السلطة، وهو ما ينفيه مكتبه. وهناك واحد من المسؤولين البارزين المقربين للكاظمي كان على علاقة مع رجل الأعمال، وذلك حسب عدة مصادر، بمن فيها مدير طاقم الكاظمي السابق رائد جوحي. ولم يتم الوصول إلى ضياء الموسوي، المسؤول الأمني الذي عينه الكاظمي مديراً لمركز العمليات الوطنية، فقد هرب بعدما أصدر القضاء أمراً بالقبض عليه بعد اتهامه بقضايا فساد غير مرتبطة بالقضية الحالية.
وسبق عملية السرقة مقترح قدمه المدير السابق للجنة البرلمانية، هيثم الجبوري، واقترح فيه وقف عمليات التدقيق ودور اللجنة المالية في فحص السحب المالي من حسابات مصلحة الضريبة، وذلك بسب الشكاوى الكثيرة من العملية الطويلة. وتم تعيين الجبوري بعد أشهر مستشارا للكاظمي، ولم يرد الجبوري على مطالب متكررة من الصحيفة للتعليق. وكانت هذه الحسابات مكدسة بمليارات الدولارات التي أودعتها الشركات الأجنبية العاملة في العراق. ويمكن استعادتها بعد تقديم البيانات المالية الحقيقية، ولأن العملية مرهقة فقد اعتبرتها معظم الشركات مشطوبة مخلفة إياها في وعاء نقدي جذاب.
وقال عضو سابق في اللجنة المالية بالبرلمان إن مقترح شطب التدقيق المالي كان خطاً أحمر في إدارة وعدت بمحاربة الفساد. إلا أن اللجنة المالية في البرلمان ومكتب رئيس الوزراء أرسلا رسائل عبرت عن عدم معارضة للعملية، و”كان هذا جزءاً من الخطة”، كما قال. واعتمد تنفيذ العملية على تواطؤ عاملين في مصلحة الضريبة، التي كان تصادق على الشيكات. وتم بناء الشبكة عبر مدير المصلحة السابق شاكر محمود، حسب أربع مصادر في وزارة المالية. وبناء على رسالة من مكتب رئيس الوزراء، ومكالمة من غرفة التدقيق، أمر محمود بوقف التدقيق، وذلك حسب وثيقة اطلعت عليها صحيفة “أوزبريرفر”. وبعد فترة قصيرة نقل شاكر إلى مصلحة الجمارك، حيث يشتبه البعض بخطة مماثلة طور الإعداد. ولم يتم الاتصال بشاكر للتعليق.
وحظي محمود ومنفذو العملية بدعم من “منظمة بدر” التي تسيطر على التعيينات البارزة في مصلحة الضريبة والجمارك، وذلك حسب سبعة مصادر. وبالإضافة لموافقة رئيس الوزراء على تعيين المدراء بحسب مرسوم صادر عام 2020. وفي الوقت الذي كان وزير المالية، في حينه علي علاوي، يوقع على التعيينات بدون أن تكون له سلطة على التعيينات. وتخلى اثنان رشحهما لمنصب المدير عن التعيين بعد تلقيهما رسائل تهديد من “منظمة بدر”.
وقال مسؤول: “لم يكن علاوي ليستطيع عزل أي شخص لأن بدر لم تكن توافق، ولم يحصل على دعم مكتب رئيس الوزراء”.
ونفى الكاظمي أي مسؤولية عن السرقة. وقال مدير طاقمه السابق: “حدثت هذه العملية بأكملها داخل وزارة المالية. وبدأت العملية في مصلحة الضريبة وانتهت ببنك الرافدين (المملوك من الحكومة) وكلاهما واقع تحت وزارة المالية”.
وفي تموز/يوليو 2021 بدأت مصلحة الضريبة بإصدار شيكات بقيمة ملايين الدولارات. وتم إصدار 247 شيكا على الأقل لخمس شركات، وعلى فترة 14 شهرا. وتم إكمال سحبها من خلال فرع للرافدين في مصلحة الضريبة، حيث تم إيداع المبالغ المالية في حساب الشركات، ثم تم سحبها مباشرة، مما أثر على السيولة المتوفرة لدى البنك.
ولم تمر عملية السرقة بدون انتباه، فقد أصدر علاوي مرسوماً في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 منع فيه عمليات السحب بدون موافقته، لكنها استمرت من وراء ظهره. وأرسلت وحدة مكافحة تبييض الأموال في بنك الرافدين الرسائل للإدارة محذرة من عمليات السحب، إلا أنه لم يتم اتخاذ إجراءات من الرافدين والمصرف المركزي، المفترض أن يشرف على القطاع المصرفي.
وقال مسؤول مصرفي: “كان يجب أن تثير مسألة طلب فرع واحد الأموال الكثير من الأسئلة الجدية”. فقد ساعد غياب نظام مصرفي أساسي وخزينة واحدة على إخفاء عمليات تجفيف الأموال بشكل سريع. وقال: “هذا خلل وظيفي مقصود”، و”عارضوا بشكل مستمر نظاما كهذا لأنه سيمنعهم من مواصلة ألعابهم”.
وقالت مصادر إن الموظفين الذين عبّروا عن قلق في مصلحة الضريبة تعرضوا للعقوبات. ورغم الملصقات الموزعة على طوابق المصلحة في بغداد، والتي شجعت الموظفين على الإبلاغ عن أي تجاوز مالي أو فساد إلا أنها أصدرت بياناً للموظفين بعد انتشار الشائعات أن سحب الأموال ليس مضراً.
ولم تحصل الصحيفة على تعليق من مصلحة الضريبة وبنك الرافدين وغرفة التدقيق والبنك المركزي. وشعر علاوي بالإحباط وقدّم استقالته في آب/أغسطس، حيث حذر في رسالة استقالته من “أخطبوط فساد كبير وخديعة” سيأكل البلد. وحاول خليفته فتح تحقيق، لكنه تشابك مع البرلمان مما أدى لعزله في ما نظر إليه كمحاولة لقمع التحقيق.
وتمثل القضية تحدياً للسوداني، وملاحقة المسؤولين الكبار المتورطين، بمن فيهم أفراد في التحالف الذي وضعه في السلطة. وأخبر السوداني الصحافيين: “ما حدث لم يكن من عمل أناس في القطاع الخاص أو مجموعة صغيرة من الموظفين، فهناك تستر سياسي أو رسمي من المسؤولين المؤثرين في الدولة”.
وصادرت الدولة حوالي 55 عقاراً، وأرصدة بقيمة 250 مليون دولار من رجل الأعمال، وسجنت مسؤولين في مصلحة الضريبة، كما صدر بلاغا اعتقال ومنع سفر لتسعة مدراء شركة وموظفي في الخدمة المدنية. ولا يزال التحقيق متواصلاً، إلا أن قاضياً أخبر الصحيفة أنه لم يتم التوصل لأدلة بعد عن ضلوع مسؤولين في السرقة. وهناك قلة من العراقيين يعتقدون بحصول محاسبة حقيقية. وقال عضو سابق في اللجنة المالية: “سيحمّلون مجموعة من الأشخاص المسؤولية أما البقية فستفلت” من العقاب.
المصدر: “القدس العربي”