د. مخلص الصيادي
تزحف فرق كرة القدم في مونديال قطر ببطيء صعودا إلى الدور التالي، وتقدم في زحفها عروضا متفاوتة، بعضها جاء مبهرا كالعرض الذي قدمه الفريق السعودي أمام الأرجنتين في الدور الأول، وبعضها جاء مبشرا كالعرض الذي قدمه الفريق التونسي أمام الدنمارك، وبعضها جاء ممتعا كالعرض الذي قدمه فريق البرازيل أمام صربيا، وبعضها جاء صاعقا كالعرض الذي قدمه فريق اسبانيا أمام كوستاريكا
وحين ينتهي الدور الأول سيكون ستة عشر فريقا قد ودع المونديال، ومثلهم قد صعد الى دور الستة عشر. الذي يبدأ في الثالث من ديسمبر.
ولا شك أن هذه الرياضة هي الأكثر تشويقا ومتابعة من كل الرياضات الأخرى، وهي الأكثر شعبية عالميا، والأكثر ثراء ومكانة وقوة واستثمارات، وتعتبر المنظمات والهيئات الموجهة والحاكمة لها وطنيا وعالميا الأشد تأثيرا على مستوى القوة الناعمة داخل المجتمعات المختلفة.
وإذا كان صحيحا ما يقال بأن الرياضة ـ شأنها شأن الموسيقى ـ باتت لغة عالمية، لا تحتاج إلى مترجم، يفهمها الجميع، ويهتم بها الجميع، وتحمل في طياتها قيما ومفاهيم إنسانية، تساهم في صنع الأمن والسلام، وتقيم موازين الأخلاق والحقوق الإنسانية، وتهذب النفوس، وتصون وجود الإنسان وكيانه وحقوقه، وتساهم في تجاوز الفروق الدينية واللغوية والعرقية، فلا تجعل هذه حاجزا أمام تفاعل المجتمعات الإنسانية وتعاونها في بناء ذلك المستقبل الأمن المنشود.
إذا كان هذا المعنى والمكانة للرياضة عموما، ولرياضة كرة القدم صحيحا ـ وهو عندي صحيح ـ فإن هذه الدورة للمونديال ذات طبيعة خاصة، وميزة تنفرد فيها، وتستحق من الجميع التوقف عندها، والتبصر في مدلولاتها، والبناء عليها مستقبلا.
واضح وضوح الشمس الجهد الذي بذلته دولة قطر لإنجاح هذا الحدث، والبنية التحية الهائلة التي أقامتها من الألف إلى الياء، حتى باتت ـ بالأرقام ـ الأكثر تكلفة على الإطلاق، ولا نظن أن دورة قادمة في أي دولة كانت ستكلف مثلما كلفت دورة قطر حيث ذكر أن البنية التحتية وما اتصل بإقامة هذه الدورة تكلفت 220 مليار دولار.
وواضح أيضا أن تنظيم هذه الدورة جاء على نحو مميز، وقد بذل فيه الكثير، واستعانت قطر لإنجاح هذا التنظيم بما توفر لديها من كوادر إدارية وفنية وأمنية، وكذلك بما استعانت به من إمكانات عدد من الدول الصديقة والشقيقة.
هذا كله واضح ومشهود، لا يحتاج إلى عرض للتفاصيل، ولا إلى ايراد للشواهد، والذي عايش الوضع في قطر، وكذلك الذي تابعه عبر شاشات التلفزة بات يملك الكثير مما يدعم هذه الخلاصة، بل إن البعض ليبدو مشدوها أمام كمال وجمال ما تم توفيره، وقد تراوده نفسه لنقد هذه الصورة المبهرة التي تحمل الكثير من معاني البذخ.
لكن والحق يقال فقد جاء أداء القطريين مبهرا في المحافظة على المعاني الإيجابية والإنسانية للرياضة عموما، ولرياضة كرة القدم على وجه الخصوص باعتبارها الحدث الجاري والقيم الواقعة تحت نظرنا.
واستطاع القطريون الذين تصدوا لحملة هوجاء من الغرب الاستعماري العنصري قبل افتتاح المونديال، أن يحافظوا على نهجهم، وأن يحفظوا لهذا الحدث قيمه وأخلاقه، وأن يفرضوا على الجميع الأخلاق الإنسانية للرياضة، الأخلاق البريئة من العنصرية والشذوذ والانحراف.
وظهر للعالم كله وفي صور ومشاهد نقلت للعالم أجمع كيف أن العنصريين الغربيين أرادوا أن يفرضوا قيمهم المنافية لإنسانية الانسان، في هذا البلد العربي المسلم، فتم التصدي لهم بكل هدوء وحزم.
** مشهد الشواذ جنسيا: تم التصدي له، تم منع الشاذين ومؤيديهم، من إظهار هذه الخسيسة، وكل ما يدل عليها من إشارات أو أعلام، أو سلوكيات. ولم يستثن من ذلك مشجع أو وزير أو مسؤول، ولم تستثن من ذلك دولة كبيرة أو صغيرة.
** مشهد الصليبية العنصرية التي أراد بعض المشجعين إظهارها من خلال ارتداء أزياء الحروب الصليبية، والصليبية هذه لا علاقة لها بالسيد المسيح، رسول الله الذي يؤمن به المسلمون عربا وغير عرب، ويعتبرون الإيمان به جزء أصيلا من إسلامهم، فهذا المشهد الذي تصدى له الأمن القطري ينتسب إلى الحروب الصليبية وإلى العدوانية الغربية على عالمنا وأمتنا.
** مشاهد العري المتعمد من بعض النساء، وهو عري لا علاقة له بالرياضة ويتنافى مع أي قيمة إيجابية يراد التمسك بها.
هذه المشاهد الثلاثة لم تأت صدفة أو من ضابط أو عفو الخاطر، وإنما جاءت بتخطيط وتنظيم ورغبة في تحدي قيم المجتمع القطري، وفي أن تفرض عليه قيما غربية متفلتة، وليكون هذا الفرض مدخلا لتثبيت هذه القيم في مجتمعاتنا. وكانت وراء هذه المشاهد دولا وفرقا ومنظمات أرادت أن تقتنص الفرصة لتحقيق هذا الغرض.
والحق أن القطريين استطاعوا ـ ولعلهم استطاعوا ذلك لوحدهم ـ أن يتصدوا لهذا كله، وان يخُطوا لأنفسهم أولا، وأن يخُطوا للنظام العربي كله، وللدول الإسلامية أيضا مفهوما جديدا يؤكد القدرة على التصدي للغرب العنصري، ولقيمه الشاذة، واستطاعوا أن يضعوا حجرا أول في طريق طويل يمكن أن يبني من خلاله نظاما عالما للقيم لا يكون صدى لنظام الغرب، ولا انصياعا لقيم “الرجل الأبيض”، ولا يتكئ على مركزية الغرب في فرض قيمه، وإنما يكون تمثيلا للقيم الإنسانية المشتركة المستنبطة من سنن الاجتماع الإنساني، حيث العدل والأمن والصحة والسلام، وقيم الأديان وما تبثه من أخلاق ومن أسس للحفاظ على الأسرة باعتبارها ركيزة وجود المجتمع الإنساني كله. وهذه القيم الإنسانية هي الناظمة ليس لحياة الانسان وإنما للحياة على هذا الكوكب وديمومتها واستقرارها.
في كل يوم يمر من أيام المونديال تتألق الفرق الفائزة على طريق القمة، وصولا إلى المباراة الختامية، حيث ستستقر الكاس بين يدي الفائز في مباراة الختام. وحين نصل إلى نهاية تلك المباراة، يكون صاحب الكاس قد حصل عليها بجدارة.
لكن، والحق يقال، إن لهذا الكأس معنى خاصا وقيمة مميزة، لأنها ليس مجرد كأس في مونديال كرة قدم، وإنما تحمل في ثناياها ورائحته مونديال “الصراع على القيم الخيرة وعلى التنوع الإنساني المشرف”، مونديال التأكيد على حق الشعوب في تحديد منظومتها القيمية’ ومن هذه الزاوية فإن قطر هي الأَولى والأحق في الحصول على هذه الكأس، وإن لم يكن هناك إلا كأسا واحدا ينالها الفائز في المباراة النهائية، فإن هذه الكأس سوف تحمل شعار قطر، لتكون صنع في قطر، وصنع بملاط أخلاق شعب قطر العربي المسلم.
وستكون خسارة جسيمة أن نعتبر نهاية هذا المونديال هي نفسها نهاية لهذه المعركة الأخلاقية الإنسانية التي كان المونديال ساحتها.
ستكون خسارة وجريمة بحق ما أنجزته معركة المونديال وبحق شعوبنا، وبحق الإنسانية التي تهتز ـ منذ حين ـ بعنف وغضب بسبب موجة الشذوذ والانحراف والعنصرية التي تجتاح العالم الغربي، والتي تعمل قوى متنوعة على تسييدها وتصديرها لقيم النظام الدولي.
وحتى لا تقع هذه الخسارة لابد م اعتبار نهاية هذا المونديال هي البداية لانطلاق جهد دولي منظم على كل المستويات، وفي كل المنظمات، وعلى كل الجبهات، لتثبيت القيم الإنسانية والأخلاقية والأسرة الحقيقية المنسجمة مع الفطرة ومع السنن والإنسانية، والمتوافقة مع احتياجات إعمار هذا الكون.
قطر افتتحت هذه السبيل، فلها الشكر والتقدير، لكن البناء عليه وصولا إلى قيم مشتركة لنظام عالمي جديد يحتاج إلى جعل “مونديال قطر” فاتحة لمعركة قيم لا يتخلف عنها أحد منا، شعوبا وحكومات ومنظمات ومؤسسات إعلامية، وتربوية، ودينية، ورياضية.
فهل هذا ممكن؟ هل نستطيع أن نتطلع إلى مثل هذا النهوض، وإلى مثل هذه الصحوة،
قد يكون واقع الحال محبط، لكن الإنجاز القطري مشجع.
يبقى ونحن ندقق النظر في “مونديال قطر” أن نشير الى الروح القومية والإنسانية الراقية التي ظهر بها الجمهور العربي متفاعلا مع فرقه المتعددة، في الملاعب وخارجها، وملتزما ومحملا بقضيته الفلسطينية، ومظهرا الحصار والعداء للوجود الإسرائيلي في هذه الفعالية، مما أعطى الإسرائيليين الرسالة الحقيقية بأن التطبيع معهم في أحسن صوره هو فعل جهات رسمية، لكن لا وجود حقيقي له بين الجمهور العربي على اختلاف جنسيات ودول هذا الجمهور.