د. مخلص الصيادي
أحمدِ اللهَ أن كنتَ إلى العربية تنتسب، فصن نسبك، واعتز به، ودافع عنه، فهو صنو الشرف، بل هو للفرد مثله للأمة الشرفُ نفسه.
لا تضيع شيئا من اللغة فيضيع منك الكثير في الدنيا والآخرة. اللغة لسان حي، وانتماء متنامٍ فلا تنس أن تغذيها بالمعرفة، وتصونها بالتمييز، وتدفع عنها كل غارة. وحين جاء القلم قيد هذا اللسان، وحفظه من الخلل والزلل بعدما تداخلت الأمم، وغارت الألسن على بعضها، فدخلت العجمة، فصار القلم لازما، وتقعيد القواعد واجبا، لكن الأصل هو اللسان، هو الصوت الذي ينطق به الانسان تعبيرا عما يريد، وهو في العربية الصوت الذي جعله الله معبرا عن مطلوبه من بني آدم. إذ جعلها وأودع فيها القدرة على نقل مراد الله من البشر، وسنن الله فيهم، فأخذت اللغة شرفها وقدسيتها من رب العزة، فصارت بذلك لغة مقدسة، امتازت بذلك عما سواها، وميزت الآخذين بها بقدر ما يحفظونها ويقومون بحقها.
ولأجل ذلك لم يجعل الانتماء إليها انتماء عرق وعصبية، وإنما انتماء فكر وثقافة ومعرفة، فصار العربي هو ذلك الانسان الذي يتخذ من العربية لغة له، ومن تاريخها وبيئتها وبنيتها الجغرافية والاجتماعية منهلا يستقي منه ثقافته، ويتعرف من خلاله على تفاصيل دينه وعقيدته، فتصبح الأماكن والمواقع والأنساب والمعارك كلها جزءا أصيلا من مكوناته الثقافية. فيشتاق إلى مكة والمدينة شوقه إلى ذاته، شوق لا ينقطع ولا يشبع، ويتطلع إلى أُحد وبدر والخندق وتبوك والقادسية واليرموك، كمعلم رئيسي من معالم حياته، ومكون رئيس من مكونات فكره، ويسترجع في حجه حركة التاريخ، ممثلة بأبينا إبراهيم، وبأمنا هاجر، وبأبي العرب إسماعيل، وحينما يمتد طرفه إلى مصر والمغرب وأفريقية وبلاد ما وراء النهرين وفارس، تتدفق أمام ناظريه جموع الفاتحين وقد حملوا معهم إلى تلك الأصقاع رسالة الإسلام، ولغته، فوصلوا بذلك ما كان قد انقطع في سالف الأزمان، وأزاحوا من أمام حركة التاريخ المتدفقة ما تراكم أمامهم من أصنام وآلهة وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا تظنن أنك ـ وأنت العربي ـ إذا قمت بذلك فإنك تقدم للعربية فضلا، وإنما لنفسك تقدم الفضل، فهذه اللغة حماها الله بالقرآن الكريم، وحصنها على مدى التاريخ المعلوم بقوم أصلاء، يرون أن الانتساب إليها، والتسلح بها، والذود عنها، شرف ما بعده شرف، ودين لا تصح الدنيا إلا به، ولا ويفهم على الوجه الصحيح إلا من طريقها، ولا تنال الآخرة إلا من خلالها، فإن أردت أن تكون من الفائزين فعليك بها سبيلا لكل شيء.
بينها وبين كتاب الله وشيجة لا تنقطع، ولا تستبدل، وبينها وبين المنتمين إليها نسب أصيل صريح، لا يخالطه دخن، ولا يقبل التجزئة، ولا يصح معه إلا تمام الانتماء.
العربية والعربي كيان واحد، العربي وعاء العربية، لا تقوم إلا به، ولا تتألق إلا من خلاله، والعربية ذاكرة العربي وشخصيته، تاريخه وهويته، أداته وسر تقدمه، إذا أصابه الوهن أصابها، وإذا داخله الضعف داخلها، وإذا أغار عليه العدو قصدها، وحينما قدر الله لها كتابه العزيز، فقد قدر لها البقاء، وحفظها من كل غارة واعتداء، وبهذه اللغة، وبهذا الدين، يحفظ العربي نفسه، وتحفظ الأمة ذاتها، وتتمكن من صد كل عدوان عليها.
هذه حقيقة ناصعة جلية للغة العربية وأهلها لا يجادل فيها إلا جاهل، ولا يتعامى عنها إلا غافل، ولأنها كذلك كانت ترجمة القرآن إلى أي لغة أخرى مستحيلة، لكن ترجمة المعاني ليست كذلك، فالآية الواحدة من كتاب الله احتجنا إذا أردنا أن نترجم معانيها إلى صفحات وصفحات، ولا نوفيها حقها، وفي كل عصر، ومع كل عالم نحرير يمكن أن تظهر لها معانٍ جديدة، وأن تكشف عن أوجه ما كانت مرئية أو معتبرة من قبل.
واستحالة ترجمة القرآن إلى لغة أخرى يعني فيما يعني توكيد “المعجزة الخالدة” في النص القرآني، معجزة يزيدها التقدم الإنساني وضوحا، وتؤكدها الدراسات اللغوية المحدثة في كل حين.
ومن مظاهر خدمة العربية والاعتناء بها تعلم اللغات الأخرى، القديمة والحديثة، وكلما تمكن العربي من تعلم لغة جديدة تكشفت له جوانب إضافية من عظمة لغته، وتجلت له معان جديدة من معاني اصطفائها على اللغات الأخرى.
ولهذا المعنى فإن تعلم العربي اللغات الأخرى مطلوبٌ خدمةً للغته الأم، وخدمة لدينه، وخدمة لكتاب رب العالمين.
والذي يريد التعرف على بعض أوجه تفرد العربية في نقل مراد الله، وما أودعه جل وعلا في كتابه العزيز، يستطيع أن يرجع إلى الكثير من الكتب المختصة بهذا الشأن، وهي اليوم متوفرة في مواقع كثيرة على الشبكة العنكبوتية، وكذلك يستطيع الرجوع إلى العديد من البرامج المتخصصة على الشاشة الصغيرة.
وفي هذا النطاق قدمت فضائية الشارقة برنامجا امتد سنوات متصلة للأستاذ الدكتور “فاضل صالح السامرائي” كان بعنوان “لمسات بيانية”، وقدمت وما تزال برنامج “في رحاب سورة” للأستاذ الدكتور “امحمد صافي المستغانمي” وفي حلقات هذين البرنامجين الكثير الكثير من دلائل الإعجاز اللغوي، ومن الخصائص الفريدة لهذه اللغة التي جعلتها متميزة عما سواها.
يقول الباحثون إن عدد مفردات اللغة العربية يتجاوز 12 مليون و 300 الف مفردة دون تكرار وهذا رقم يعادل 25 ضعفا قياسا لعدد مفردات اللغة الإنكليزية التي بلغت 600 الف مفردة متقدمة بذلك على كل اللغات الحية الأخرى. والدراسات تؤكد ان اللغة العربية واللسان العربي هو الأقدم وإليه ترجع اللغات القديمة، وأكد باحثون عرب وغربيون بأنها العربية أم اللغات القديمة، ثم إنها صارت بعد ذلك المصدر الرئيسي للغات لاحقة لها. ولثرائها تغلغلت العربية بألاف الالفاظ والمصطلحات في اللغات المعاصرة.
وإذا كنا ندرك أن في العربية تسعة وعشرين حرفا، وأن للحرف العربي الذي خط به كتاب الله حالات عديدة حسب حركته، ومخارجه، وحسب مدوده، فإن العربي المجيد للغته لا يجد صعوبة أبدا في تعلم اللغات الأجنبية، وفي نطق أي حرف فيها. أي أن تعلم واتقان العربية يساعد ويسهل تعلم واتقان اللغات الأخرى.