محمد أمين الشامي
أكاد أجزم أنَّ عددًا منّا يقف الآن من هذا الإعلان موقفًا حائرًا يكاد يصل به حدَّ اتِّخاذ موقف استنكاري أو بأحسن الأحوال “عدمي” منه بالمفهوم النيتشي (نسبة إلى الفيلسوف نيتشه) الذي يعني ببساطة نفي وجود معنى متأصلٍ في الحياة، أو الإجابة على سؤال “ما الجدوى من ذلك؟” بالنَّفي القاطع. وقد لا أجافي الحقيقة إن قلت إن هذا الموقف هو نتيجة لما تعاقب على هذه الفئة من وقائع متتالية اتسمت بالمرارة وهدمت كلَّ ما جاء في إعلان حقوق الإنسان هذا الَّذي نصَّ في مواده الثّلاثين على الحقوق والحريات الأساسيّة للفرد وعالمية طابعها كونها نزعة أصيلة غير قابلة للجدال ويمكن تطبيقها “على جميع البشر”!
وإذا تابعنا القراءة المرتبطة بالإعلان نقف على النِّقاط التّالية: اعتُمِد الإعلان بصفته معيارًا مشتركًا للإنجاز لجميع الشعوب والأمم، ويلزم الدول الاعتراف بأن جميع البشر “يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق بغض النظر عن الجنسية ومكان الإقامة والجنس والأصل القومي أو العرقي أو اللون أو الدين أو اللغة أو أي وضع آخر”!
بعيدًا عن حيثيّات الإعلان المتناقضة تاريخيًّا وسياسيًّا، والمواقف الدولية المعلنة والمضمرة منه ومن تطبيقه، فقد وقَّعت عليه معظم البلدان العربية والإسلامية الأعضاء يومها في الأمم المتحدة، ومنهم سورية، وامتنعت المملكة العربيّة السعودية عن ذلك لمخالفته الشريعة الإسلامية في بعض نقاطه، فيما أثنت عليه لاحقًا شخصيات بارزة منها بابا الفاتيكان مثلًا. فلماذا أصفه الآن بالعدمي بدل العالمي، وهل يحق لي تعميم الموقف ليشمل عددًا غير محدود من “البشر” الَّذين يستهدفهم هذا الإعلان، قلَّ هذا العدد أو كثر؟
بعد أن لمسنا اللامبالاة المفرطة من المأساة السورية من قبل القريب والبعيد دولًا وحكومات وزعماء ومنظمات وشخصيات اعتبارية وحتى شعوبًا، ووقفنا على المتاجرة الفاضحة بمعاناة السوريين وتضحياتهم من قبل الكثيرين ممَّن ادَّعوا صداقة الشَّعب السّوري، وشهدنا ضروبًا من الإذلال والاضطهاد والعنصرية البغيضة على يد “بشر” آخرين، إلى جانب الخداع والغش اللّذين مورسا على شعب لم يرتكب أي خطيئة سوى مطالبته بالحرية التي ينص عليها الإعلان المذكور أعلاه، ندرك أنَّ الأمر يتعدّى موقف الاستنكار بمراحل.
وإذا أضفنا إلى ما ذكرنا توًّا الفظائع التي ارتكبها النظام بحق مكون رئيس من مكونات المجتمع الذي يحكمه استنادًا إلى المبرر الوجودي والتهديد الذي يحمله، والانتهاكات المدانة ذات الدافع الطائفي والعرقي لشعوب لجأ إليها السوريون هربًا بأرواحهم وأولادهم، والمواقف العنصريّة لشعوب أخرى اعتمدت على الجنسية والأصل القومي والدين في تبني تلك المواقف من السوريين ومأساتهم، أدركنا عدمية الإعلان بالنسبة للمحسوبين على بعض البشر من أمثالنا ممَّن اختبروا كل هذه الصدمات والخذلانات والخيبات على مدى يزيد على عقد من الزَّمان.
الحكاية ببساطة أننا طلبنا العيش بحرية في بلدنا وطالبنا بالمساواة بالكرامة والحقوق التي ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فجوبهنا بما تعرفون، فالتمسنا العيش بحرية والمساواة والكرامة والحقوق في البلدان الموقعة على هذا الإعلان فعوملنا بما تشهدون. فماذا بقي من هذا الإعلان المشؤوم بالنسبة لنا؟ لقد زال السحر أو يكاد: سحر الجعجعة بالخطاب الديمقراطي الإنساني الحر المتسامح بكل مثله العليا وصوره الزاهية، وبرزت خيبة الأمل بقوة: خيبة الأمل من إخوة الدين واللغة والتاريخ والثقافة والإرث الحضاري بكل حبالها المتينة وروابطها الأبدية، بعد أن تغلَّبت المساومات الملموسة على رجاءات الخيال، وحلت القراءة الجهرية للنَّوايا محل القراءة الصامتة، أو بلغة التفسير: حل التفسير بالدراية محل التفسير بالرواية، أو بلغتنا الدارجة: ذاب الثلج وبان المرج وعرفنا إلى أين وصل انغماسنا في الطين، وبالتالي أوصلونا إلى مرحلة “الاقتلاع” أو “الهروب”، أو البحث عن أرض غير الأرض وواقع غير الواقع وضمائر غير الضمائر وحقوق غير الحقوق.
لقد فرَّغت السلوكات الدولية والشُّعوبيّة (أي العنصرية) هذا الإعلان من محتواه وجردته من معانيه السامية التي حملها يومًا، تمامًا كما فعلت مع مفاهيم الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة من قبل، ونقلته من براح العالمية إلى ضيق المحلية ليتحول إلى مجرد نص ضيق يُرجع إليه في تناول القضايا الشائكة حسبما تقتضي المصلحة الذاتية لا أكثر. وإذا أردنا تطبيق القراءة الحداثية على النصوص التاريخية، فيجب البدء بمثل هذا الإعلان من وجهة نظري، هذا إن كان لدى القائمين على أمور العباد الرَّغبة الحقيقيّة في الحفاظ على ما تبقى من صدقية لديهم ولما يطرحون، وإلّا فالإعلان يتحوَّل إلى أحفورة تاريخية لنوايا لا مكان لها في واقعنا الَّذي نعيش أسوأ كوابيسه، بعد أن “تجرَّدت القيم العليا من قيمتها” تبعًا لإضافة نيتشه على تعريف العدمية.
المصدر: اشراق