مصعب عيسى
اينما وليت وجهك ثمة أعين تراقبك تفتح عينها على دعوى موتك وتشييع رفاتك ..ثمة سواطير تغتالك كلما نهضت من جرحك لتنسج ضمادا لآلامك وكأنك نبي الله في جاهلية عصرك ..ثمة معاول واقفة على رهن إشارة كي تغرس مقدمتها في ظهرك في جلدك في صدرك في كل اشلاءك الحية والميتة والمصابة منذ هجرت فردوسك الاول ثمة قرار يغتال قرارك ويغتال سلاحك وينصب كمين للثامك كلما اتجهت يمينا قتلوك ..وكلما ادرت جبهتك يسارا لاحقوك. فوق الارض مدان وتحت الارض مدان ..بلثام انت مدان وحاسر الوجه والعينين والراس انت مدان بذقن مهمشة كصفيح خيمة انت مدان ..وبطراز رفيع الأناقة انت مدان …يلاحقوك لأنك رسالة السماء لكل اهل الارض ..لانك دين الله في وجه آلهتهم والاصنام . لانك المصطفى من حضرة السماء لهذه الأرض المباركة ..وما حولها
واينما ولوا وجوههم ثمة وجهك المتعاقد مع نكبة ونكسة ومخيمات ..ثمة تاريخ هزيمتهم ..اينما ولوا وجوههم ثمة رصاص يقتص لثأر الله ورسله والتابعين له إلى يوم الدين. ثمة زيتون وزعتر واوركيد يذكرهم أن هذه الأرض لن تنحب دحنونا عبريا ولن تنجب حناء اشكنازية …ثمة وجه دليلة يسخر من شمشونهم ثمة داود في وجه جالوته…ثمة بتول وطهر يسوع في وجه كل يهاوذة عصورهم منذ بعثهم إلى يوم رحيلهم .. ثمة وجه مقاوم في باب قمتهم وصوامعهم ومجالسهم وقراراتهم ثمة انت و اينما تولي وجهك انت وحدك هكذا أخبرنا السابع من أكتوبر…هذا التاريخ الذي سيبقى مغروسا في الذاكرة الجمعية للعالم بأسره …أمام ما حدث فيه ..وأمام مايحدث من نزيف ..وحمى في خاصرة الوطن ..ومقاومة مستميتة لاجتثاث اسباب الفيروس السرطاني الذي أصاب هذه الأرض منذ أكثر من خمسة وسبعين سنة ..والجسد لايزال يعاني من التهاب مزمن في الذاكرة وتفاصيلها الموجعة وهو يأبى النسيان ..أنه الحق الذي لا يموت كما وصفه الاديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني.. وأمام ما سيحدث من سيناريوهات متعددة الجنسيات لمحو جنسيتك..ثمة أساطيل تتمايل في بحر العرب تفتح فمها لالتهامك لافتراسك لقضم ماتبقى من شعابك ..ثمة سماء برتقالية تنير ليل بلادك وطائرات تلقي رعبا وجحيما لحرق وجودك …ثمة جيش العالم بأسره. امام رشاشك وانت وحدك تحاصر حصارك ..وتقاضي موتك ..والجلاد ..تقاوم حاضرا واقعا على كاهلك..لا مفر
ثمة أروقة ومجالس تعقد قمتها على انغام جنازتك وانت تحمل نعش شهيد لم يبلغ من العمر إلا أيام على ولادته …يتربصون لموتك يمقتون بقاءك لا لكرها فيك بل كرها بضعفهم الذي وجدوه في ثباتك لوضاعتهم أمام جبروتك..لعهرهم أمام طهرك..ولصغرهم أمام عظمتك …يدعون رب العرش في السر والعلن أن يشتت شملك ويمحق ظلك ليدوم ظله ورقابهم..ثمة خطابات معلقة على جدار كعبتهم كرغاء الدجالين في سوق نخاسة. كإعلان الشيطان عن توبته وهل يتوب ابليس عن عصيانه ؟
خطابات مطولة منضدة ومنقحة ومدققة من قبل اساتذة الفكر التلمودي..مسيجة بذراع استير ومعنونة باسم الياهو الاعلى ..ثمة اوراق عمل وطاولات وخدم لاتخلق املا من عدم ..ثمة حقارة وقذارة ثمة رجس وطغيان ثمة مهزلة في قمة العرب عنوانها تنديد واستنكار وحمر تحمل اسفار
ولكنك تعقد جلستك كل دقيقة ..بلا مندوبين وحشم بلا اوراق وقلم تلقي خطابك من ارض رهانك تعقد مجلسك الثوري على تراب معركتك تحصي فيه خسارة اعداءك وتعداد القتلى والجرحى وحصيلة غنائمك البشرية والمادية والمعنوية وتراهن على رهائنهم وتبايع طفلك من بعدك وتوصيه: يا بني ان مت فلا تصالح
لك خطابك الدموي يا ابن الأرض ويا عبد الله ولهم خطابهم لك دقائق ينتظرها الكون باكمله ولهم روايتهم السردية العبثية التي تثير سخرية الطفل وأقرانه …لك وطنك الذي يمتد من زناد بندقيتك إلى سفح الجرمق ..وصحراء الغضب ولهم ممالك وامارات تتربع على مؤخرة الغرب أن ضرط الناتو فرت قصورهم والحرس والاعوان وهبت رائحة النفط المتعفن في جوفهم فتكمل اجهازها عليهم
والان نسأل أنفسنا بأرواحنا ما العمل يا ال كنعان …
وقف الكنعاني من جديد وبذات التاريخ الدائر في نفس الاسطوانة يدافع عن نفسه بوحده ولوحده وعن وكله المتشظي بين خاصرتين متشابهتين في الحالة المرضية متضادتين في العلاج والمقاومة ..وقف الفلسطيني ثانية يقدم شرحا مطولا عن فصول النكبة والتطهير العرقي في فلسطين والذي حاول الكثيرين طمسه واخفاؤه وتحريفه ومحاولا لإجبار الذات الفلسطينية على محو ذاكرتها من سجلات التاريخ الواقف دوما بالمرصاد والذي يدون نيابة عنا نحن المقهورين في غياهب الثرى ورغما عن كل الذين تخاذلوا أو دسوا السم في أروقته طمعا في رضى ساسة الدجل العالمي ومن والاهم إلى يوم الدين
شرحا ملونا مطولا بالصوت والصورة عن ذاك التاريخ القابع في الظل ..وقف الفلسطيني أمام مرأى ومسمع العالم في تسجيل مباشر هو الأطول من نوعه يحدثهم كيف سار المسيح الى الصليب مقيدا بسلاسل تلمودية ودماؤه تقطر ذاكرة على درب ٱلامه الطويل …
وقف يحكي قصة الاسراء والمعراج…وقصص الانبياء وظل الوارثين في ارض السلام …
وقف مضرجا بدمه المصفر والمخضر والمحمر كدمه يحكي فصول نكبته الاولى وتغريبته مدينة مدينة وقرية قرية وحيا بحي …حتى الأشجار راح يعدد ورقاتها التي سقطت تباعا …ولكنه لم يسقط …لم يفرط ..لم يعطي أرضه للعابرين في تاريخه …لم يخن عهده كما وصاه جده الملكي صادق
ولكنه كعادته..وفي كل تواريخه التي مضت على نكبته كانت عبارته الملازمة لظله هي يا وحدنا ..راح يسائل نفسه اين المضي وانا المدان …اين المسير وانا المهان..واين اتكئ على ظلي لالتقط انفاس ثورتي وانهض من جديد …
هو يطوي اليوم صفحة السياسة .يلوي عنق الرمزية والدوران في فلك المفردات يطلق فصيح خطابه ينصت جيدا الى مايدور حوله من جعجعة بلا طحن ومن مخاضات بلا ولادة ومن تصريحات بلا هوادة ..يعلم كيف يفسر سورة الأحزاب أية أية …ويعلم كيف يتلو سورة الفاتحة على قريش وايلافها …والكافرون بأرض الله وأصحاب الفخامة..
يعرف أنه لافرق بين عربي واعجمي الا بالثورة ..يخوض حربه بسلاحه الفردي ويكتب على بوابة التاريخ آية أو اثنتين هزمت الروم على اعتابها
وحده أمام كون باكمله ..يلقي قصيدته الأخيرة على مشارق الأرض ومغاربها. يقدم مرافعته الدموية أمام قضاة العالم دون سند من أحد :
..وحدنا أمام جرائم الكون نحتسي دمنا المستباح
وحدنا على قارعة الطريق وخرائطه
نكتب للحرية بيتا من الشعر زائد عن الوحي والقافية
وحدنا على عهد الله …
وحدنا المتهمون ..
وحدنا المدانون ..
وحدنا المستباحون
ولكن …سيبرئنا التاريخ
حين نكتب وحدنا …
كتاب البداية والنهاية
صبرا ال كنعان …فإن فلسطين كل فلسطين موعدكم .