علي محمد شريف
الوعي علم ومعرفة، وثقافة تكتسب بالبحث والسؤال والتحصيل، لا بدّ إذاً من إعمال العقل وتفعيل الحواس وبذل الجهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة، والكشف عن المجاهيل وعن ينابيع الجمال في وجودنا الإنسانيّ، وإدراك الأسباب والغايات في ذواتنا وفيما يحيط بنا في هذا الكون.
يرى بعض الفلاسفة والمفكرين أنّ عوامل الوجود الاجتماعي والبيئة المحيطة والحالة المادية هي ما ينمط الفرد ويشكل وعيه ويحدّده، فيما يرى آخرون أنّ الوعي هو من ينتج المعرفة؛ ويخلق البيئة المثقفة والواقع الأمثل للمجتمع المتحضر، وإذا كنا لا نستطيع القطع بأحقية أحد الرأيين وتغليبه على الآخر إلاّ أننا نعتقد أنّ النهوض والارتقاء الحضاريّ للأمم لا يتحققّ إلاّ من خلال ثورات كبرى تقودها نخب تمتلك الشجاعة والوعي والفكر والمعرفة.
إنّ صناعة الوعي، بحسب هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر، هو ما يحدد الآليات التي يتم من خلالها استنساخ العقل البشري كمنتج اجتماعي، ومن أهم هذه الآليات هي مؤسسات وسائل الإعلام والتعليم. بناءاً على ما سبق وبالنظر لواقعنا الراهن نجد أنّ الوصول إلى الوعي المعرفيّ لم يعد بالأمر الذي يسهل تحقيقه، فبالرغم من وفرة المناهل المعرفية وانتشار وسائل الإعلام والتواصل وتكاثرها المذهل، فإنّ السمات الغالبة على معظم تلك الوسائل، وبخاصة تلك الأكثر قوة وطغياناً وتأثيراً، هي التضليل والتجهيل، وكذلك محاولات تغييب الحقيقة ومسح الذاكرة البشرية، ما يؤدي إلى تزييف الوعي وضمور العقل، وإلى خلق مجتمعات معاقة ذهنيّا ومعرفياً، كذلك هو الحال بما يتعلق بالعملية التعليمية، وبخاصة في الدول “المتقدمة”، التي باتت مهامها الأساسية تتلخص في تحييد الأخلاق، وتكريس واقع التفكك الأسريّ والمجتمعي وهيمنة سدنة رأس المال وأدواتها الطغيانية، وإنتاج أجيالٍ من التقنيين فاقدة للوعي الحقيقي ومجرّدة من القيم والمبادئ السويّة.
في ظلّ هذا الطوفان السيبراني، وفي زحمة وسائل الإعلام وشبكات البث الفضائيّ المتصارعة على الاستفراد بالإنسان الفريسة لتدجينه وتعليبه، ثمّة من يمسك بيديه العاريتن جمر الإيمان بجدوى الثقافة والمعرفة، في مواجهة غير متكافئة مع وسائل والتضليل والهدم المعرفي، لتصحيح البوصلة المنحرفة وإعادة إبرتها إلى السمت الإنسانيّ، وبالرغم من إمكاناتها المتواضعة تحاول صحيفة إشراق، عبر مشروعها التنويري الطموح، أن تضع بصمتها على صفيح الحقيقة الملتهب، وأن تغرف من بئر المعرفة وتنثر على صفحاتها ما تعتقد أنه يساهم في إضاءة الدرب الطويل نحو امتلاك وعيٍ بالواقع حقيقيٍ ومطابق
كلنا يبحث عن الحقيقة. قد تبدو العبارة كلاماً زائداً وبديهة لا تستحق الوقوف عندها، فلا أحد يرغب في أن يكون مخدوعاً. إنما أليس أكثرنا في الواقع لا يمانع في أن يكون مخادعاً؟ لا أحد عاقل ينشد العيش في مملكة الوهم، ولكن كم بقي من العقلاء في عالمٍ يحكمه ويتحكم بمصيره أرباب الجنون؟
كلنا يدّعي البحث عن الحقيقة. لكنّ الحقيقة باتت ضالة غائبة أو مغيّبة، والسلطة تفرض ما ترغب في تصديره على أنّه الحقّ والحقيقة، وما على البائسين المحكومين بسطوة الفقر والحاجة إلاّ مطلق الخضوع والخنوع لآلات الترهيب، والانصهار في بوتقه العته المعرفيّ والوعي الزائف.
كلنا يحتاج إلى الحقيقة. بدونها لن نصل إلى سنّ الرشد، وإلى امتلاك الأهلية للتصرف بوعيٍ ومسؤولية اتجاه هذه الأرض التي حملنا أمانتها، وما لبثنا أن تقاعسنا وأهملنا، فأصاب عقولنا وقلوبنا الترهل والضمور والإعاقة، لقد دخلنا عصر التيه ولا بدّ لنا من استعادة ذاكرتنا الإنسانية المنهوبة، وتنشيط خلايا المخ وعضلات القلب.
لا ينبغي للألم وللإحساس المبهم بالعجز أن يكون دافعاً للانتحار أو الاستسلام. وحدهم الحمقى من المرضى، من يشترون الوهم ويبحثون عمن يبيعهم أملاً كاذباً، ويزيّف لهم حقيقة ما هم فيه وما يحاك لهم، وحدهم الضامرة قلوبهم والمعاقة عقولهم من يتسوّلون جرعات السعادة الزائفة كي تتخدّر حواسهم إلى حين، وتتعطّل قدراتهم على التفكير والبحث عن سبل النهوض من مستنقع الألم، والخروج من نفق اليأس.
المصدر: إشراق