د- عبدالله تركماني
المسألة السورية، بعد اثني عشر عاماً على الثورة، تطرح تساؤلات جوهرية: ما هي الأسباب العميقة للثورة؟ ولماذا استمرت طوال هذه السنوات؟ وهل هناك من أفق لحل سياسي يقوم على أساس أنّ الصراع في سورية وليس عليها؟ وما هي مقوّمات هذا الحل؟ وما هي تحديات وفرص مرحلة ما بعد التغيير؟
لا شك أنّ خصوصية الثورة السورية، من حيث العلاقة بين امتدادها الزمني والتأثيرات الإقليمية والدولية وعطب بنيتها الداخلية، جعلها موضع اختلاف حول توصيفها: هل هي ثورة كلاسيكية شبيهة بثورات القرن العشرين؟ أم هي مجرد حراك شبابي عفوي سخّر وسائل التواصل الاجتماعي للتجمع في ساحات المدن؟
وعلى ضوء التوصيف الأولي لبعض سرديات الثورة وتساؤلاتها، يبدو أننا أحوج ما نكون إلى سردية واضحة لمسيرة الثورة ولمضامين التغيير المنشود، انطلاقاً من أنّ ثمة تحديات كثيرة ستواجه السوريين في مرحلة ما بعد التغيير، من أخطرها بنية التسلط والاستبداد، التي عمّمها النظام طوال خمسة عقود، مما يفرض أن تُضمَن في المرحلة الانتقالية الحريات الفردية والعامة، وإبعاد الدين عن أن يكون ” كهنوتاً سياسياً ” ومادة للدعاية السياسية.
وفي كتابي هذا أحاول أن ألقي أضواء على مسار السنوات الإثنتي عشرة: الأسباب العميقة للثورة، ومسار تعقيدات وقائع الثورة، ومظاهر غدر الثورة السورية، ورؤى لمستقبل سورية بعد التغيير. فبعد انطلاق ثورات الربيع العربي، في تونس ومصر وليبيا واليمن، لم يكن من الممكن أن تبقى سورية معزولة عن هذه السيرورة التحررية، إذ إنّ منطق التاريخ وجدله لا يسمح لـ ” الموات ” السوري بالاستمرار.
وفي هذا السياق، خاطبت رأس النظام بشار الأسد ” كي لا تبقى على الأطلال بعد أن تقع الواقعة، كما بكى المخلوعان زين العابدين بن علي وحسني مبارك، فإني أنصحك بضرورة إحداث تغييرات سريعة، بما يؤدي إلى انفتاح سياسي حقيقي، يتناسب مع التحوّل المؤسسي العالمي والعربي القائم على مجموعة القيم العالمية في الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والحكم الصالح “.
لقد اعتادت سلطة آل الأسد، منذ سنة 1970، على مصادرة المجتمع وإخضاعه كلياً، وأقامت في سبيل ذلك منظماتها الشعبية كامتداد لسلطتها، بحيث لم يعد من الممكن الحديث عن دولة ومجتمع بالمعنى الحديث. ومردُّ كل ذلك هو النظام السلطوي الذي حكم البلاد والعباد، والذي تميز بالتماهي بين الدولة والسلطة والمجتمع والحزب، واندمجت كلها في شخصية الحاكم، بعيداً عن أية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود مراتبية تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الأهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقرّب أهل الولاء وتنفّر أهل الكفاءة. وقد أدى كل ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية السليمة، وحدَّ من إمكانية الإدارة العقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية، كما أدى إلى تهميش قطاعات اجتماعية وثقافية عديدة.
لقد قامت الثورة السورية، في آذار/مارس 2011، نتيجة وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادراً على تحمّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ أربعة عقود. وقد ظل الطابع العام للثورة مدنياً وتحررياً وإنسانياً، وبقيت قاعدتها الاجتماعية تحظى بدعم من مختلف الأطياف السورية، وأخذ وجهها العام يستعير مفرداته الحداثية، بفضل تراكم نضالات الديمقراطيين السوريين طوال أربعة عقود. فقد تشكلت قيادات شابة قادرة على استيعاب معطيات التحوّل العالمي نحو الديمقراطية، وتمسك بزمام الأمور وتتحكم بحركتها حسب المتغيّرات، رغم وجود حالات تشويش فردية، طغت على الثورة بعد تغييب النشطاء قتلاً أو في المعتقلات وبروز القوى الظلامية. وهكذا أضحت الثورة السورية جهداً هائلاً من قبل جمهور كبير من السوريين لتملّك حياتهم والاستحواذ على السياسة، أي التنظيم المستقل والكلام المستقل والمبادرة المستقلة.
ولكن ربما كانت الثورة السورية الأولى من نوعها، حيث تكالبت القوى الإقليمية والدولية لجعلها ساحة مفتوحة للصراع عليها. حيث وجدت سورية نفسها ضحية عالم متغيّر، يتسم بتعدد القوى التي تتصارع، بعيداً عن حدودها. ولم يكن أحد يتوقع أنّ مسار الثورة سينحرف ويصل إلى ما وصل اليه من دمار وقتل ونزوح وتهجير، وأن يدخل هذا المسار في دوامة العنف والعنف المضاد وما تبعه من تدخل دولي، واحتلالات، ونفوذ دول، ومليشيات متعددة الجنسيات، وأجندات عملت على ديمومة الصراع وإدارته للتحكم بمآلاته.
ومن المؤكد أنّ الثورة ليست غاية بذاتها وإنما وسيلة للنهضة والتقدم، فلا ثورة في ظل مجموعات تعيش حالة من التناحر والاقتتال، وتفضي الى الكوارث والمآسي، وتتحول إلى الفوضى العسكرية والمجتمعية. ليجد المجتمع السوري نفسه أمام قادة أو مجموعات لا يختلفون بتركيبتهم العقلية والسلوكية عن النظام القائم، ويقودون عملية استنساخ للسلطة من فوق أنقاض جثث الناس ودمائهم.
ولكن، بالرغم من الكارثة السورية، فقد دخل الحراك الشعبي السوري في طور نوعي جديد، حيث أضحت شعارات الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان والدولة المدنية متداولة، مما يساعد على إرساء أرضية جديدة لنهوض شامل ركيزته إرادة الشعب الحر، الذي قرر أن لا يقبل من جديد بالمهانة والذل. ويعمل حاملو راية التغيير على صياغة معادلة جديدة في الحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفّر الشفافية والمؤسسية والقانون.
ويبقى الكتاب مفيداً لمن يريد أن يطّلع على أسباب ومسارات وكيفيات غدر الثورة السورية، وعلى رؤى مستقبلية لسورية بعد التغيير.
ولا شك أنّ القارئ اللماح سوف يدرك أنّ وحدة موضوع الكتاب وتداخل موضوعاته والضرورات المنهجية، قد دعت الكاتب إلى تكرار بعض الأفكار أحياناً، خاصة أنّ أصول مادة الكتاب كانت محاضرات أكاديمية وبحوث في ندوات فكرية وسياسية ومقالات في الصحافة.
(*) – مقدمة مخطوط كتابي الذي سيصدر قريباً تحت العنوان أعلاه.