علي محمد شريف
لم يعد لعبارة صراع الحضارات، ولا حتى لحوارها، أيّ معنى أو جدوى في زمننا الكالح، إذ تجاوزت الحضارات مرحلة الفتك ببعضها إلى أن تنهش ذاتها، ويبدو أنّ مظاهر الحضارة الإنسانية في عالمنا لم تكن غير قشرة رقيقة خادعة تغلف نواة من الوحشية المتأصلة، ضخمة وملتهبة، تنذر بانفجارٍ كوني قريب.
في الماضي كما في الحاضر لم تختلف نظرة الأوربيّ إلى ذاته المنتفجة باعتبارها الأنموذج الحضاريّ المتفوّق، ولم تتغيّر نظرته نحو الآخر على أنّه البربريّ الميؤوس من قدرته على الارتقاء لمصاف البشر الأحرار، إنه القدر، كما يرى ويعتقد الغربيّ المدجّج بمنطق الغالب، أن تتأبّد شعوب العالم الثالث المغلوب، وبخاصّة المشرقية منها، في فقرها وتخلفها وعبوديتها، فهذه الأمم البدائية لا تستحقّ حتى الحياة، وعليه لا بدّ من أن تحكم بلدانها الوحوش “الوطنيّة” المدرّبة في حظائر الغرب؛ كي لا تتطاول على البناء الديمقراطيّ للعالم الحرّ، وكي تبقى هذه البلاد الضرع الذي يضخّ الحليب والدم في عروق كانتون الحضارة المصنوع على مقاس الغرب وحده.
إذا كانت الحضارة منجز إنساني تجسّد في السيطرة على الطبيعة وفي استثمار ثرواتها ومواردها وقواها وتسخيرها لمنفعة البشرية، غير أنّ معيار التحضّر والرقيّ الحقيقي الأهم هو فيما قدّمه العقل البشريّ من إبداع في مجالات الفكر والفلسفة والعلوم والفنون والآداب، وما استقرّ عليه من مثل وقيم ومبادئ، وهذا ما يعطي الحضارة أبعادها الإنسانية والجمالية، ويمنح مفهوم العمل المعنى والغاية والسموّ، ويميّزه عن سلوك الكائنات والمخلوقات الأخرى التي تحركها الغرائز والحاجات البيولوجيّة. الحضارة وفق تلك الرؤيا موقف إنساني وجدانيّ وأخلاقيّ من الآخر والعالم، وبهذا المعنى أيضاً تغدو جميع الأمم ذات إسهام حضاري وإن تفاوتت نسبة ما قدّمته كلّ منها لفائدة البشرية من منجزات على هذا الصعيد أو ذاك، ثمّ وهذا ما يهمنا أكثر فإنّ الحضارة منجز العقل الحرّ فلا إبداع بلا حريّة، ولا مسؤولية من دون حرية، فالعبيد يمكن لهم فقط أن يكونوا وسائل وأدوات في ماكينة الطغيان وغالباً ما يكونوا وقوداً لحرائقه.
الحضارة ليست مجرّد ارتقاء مادّي يتمظهر في النمو والتطور الفكريّ والتقني وأوجه النشاط الاجتماعيّ والاقتصادي الصناعي والزراعي وغيره، إنما ينبغي أن يرافق ما سبق ارتقاء قيمي وأخلاقي يمنح الحضارة بعداً روحيّاً بحيث تكون حرية الإنسان وتحصينها هدفاً، ويكون أمن الإنسان وسعادته على الأرض غاية كلّ نشاط وفعل.
لا يكفي وجود العمارات البرجية ومدن التسوق الاستهلاكي والشوارع العريضة والأرصفة الملوّنة للاستدلال على وجود الحضارة، فغالباً ما يقطن خلف الأسوار المحروسة لهذه الأبنية وأضوائها المبهرة أحياء مهدّمة وبيوت من الصفيح، وأزقّة يتبختر على طينها البؤس والجوع والمياه الآسنة.
لا شيء يولد من العدم. ما يحدث الآن في منطقتنا والعالم زلزال قيمي وأخلاقي أشدّ ضراوة وتدميراً من الحروب والزلازل والكوارث الطبيعيّة المختلفة، وسيكتوي بويلاته الإنسان في جهات الأرض الأربع، فالصفائح التي ينبغي لها أن تحمي الحضارة الإنسانية نراها تتهشّم بإزميل نظام غربيّ يدّعي التحضّر والتفوّق، وعوضاً عن أن يستثمر فائض القوة لديه لدعم ثورات الشعوب المطالبة بحقها في الحرية والعدالة، واستئصال سرطان الطغيان المستنبت في مختبراته، والمزروع في تلك الدول البائسة، وبدلاً من أن ينتصر للحقوق والحريات وللمبادئ التي هي أساس نهضته، يحاول بكلّ ما يملك من وسائل للإبقاء على القتلة، وفرض التفاهة والقيم الاستهلاكيّة والمفاهيم المنافية للطبيعة الإنسانية، ليس فقط على من يصمهم بالبربريّ وإنما على مواطنيه أيضاً.
الزلزال الأكبر قادم، لا نعلم حقاً إن كان سيستثني المليار الذهبيّ، ولا ندري إن كان بمقدور من يدفع بالعالم إلى نهايته سيجد ملجأً يحميه من تسونامي سيكنس الأرض من ساكنيها الحمقى، ومن زيف كلّ أشكال الحضارة والتمدّن الكاذب.
المصدر: إشراق