د- محمد مرون الخطيب
تأتي الذكرى الثانية عشرة لثورة الحرية والكرامة، والشعب السوري قد زادت جراحُه وآلامه، فبعد القتل والتدمير والنزوح والتشتت في جميع أرجاء المعمورة، جاء الزلزال المدمّر ليعمّق مآسيه وقلقه في ضوء انسداد الأفق وعدم رؤية ضوءٍ في نهاية النفق. وقد جدّد الاستعصاء القاتل الذي يخيّم على المشهد السياسي أسئلة الوجود والمصير على خلفية سلوك عصابات الأسد وسياساته التي لا تشير إلى تغيير في المقاربة والتوجّه. وسط الصورة البائسة في الواقع السوري، وفي ضوء ما يجري من تحركات إقليمية ودولية، تتبلور ملامح الانشغالات السورية على أبواب العام الثالث عشر، وأساسها السعي ليكون عاماً مختلفاً عما سبق، يدفع القضية نحو الحل، إلى نظام ديمقراطي، يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين.
وإن كان رد عصابات الأسد على التظاهرات السلمية عنيفاً، لأنه لا يرى أن من حقّ الشعب التعبير عن رأيه وإرادته، والمطالبة بحقوقه أو المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن أخطائهم؛ فذلك تجرّؤ على الهيبة المطلقة التي سعى إلى إرسائها لتأبيد حكمه. لذلك فقد حٌشدت كل طاقات الدولة والمجتمع في مواجهتها، وتدمير حياة المواطنين وممتلكاتهم وتشريدهم في كل بقاع الأرض وتفكيك الدولة والمجتمع، تجسيداً لشعار “الأسد أو نحرق البلد”.
لقد تغيرت ملامح سورية التي نعرفها كما هي خلال 12 عاماً مضت، وقُسّمت بشكل غير رسمي إلى مناطق نفوذ وسيطرة قوى أمر واقع مع تدخلات دولية جمدت الحلول السياسية التي كان من المؤمل أن تؤدي إلى تحقيق العدالة الانتقالية وعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم والبدء في لملمة الجراح وبناء البلد على هدى وأهداف الثورة السورية في الديمقراطية والمواطنة. فلقد مرت هذه الثورة بالعديد من التحوّلات والمنعرجات السياسية. بحيث أصبحنا حالياً أمام خريطة نفوذ حيث يكرس الانقسام وجود أربع سلطات للأمر الواقع، التي إن تعارضت شكلياً، فإنها صارت متعايشة بعضها مع بعض، وثمة مصالح مشتركة، والهمّ الرئيس في إدارتها، محكوم بثنائية السلطة والثروة.
وسط وضع معقد، تبدو خيارات السوريين صعبة في مواجهة الواقع، خاصة إذا جرى التركيز على الجوانب السياسية، حيث كانت آمالهم معلقة على تطبيق القرار “2254”، هذا القرار الذي يبدو أنه أصبح من الماضي وكل ما يجري حالياً يتذرع به لكنه خارج إطاره، إذ أن تحققه مرتبط بالتوافق السياسي الذي أنتجه في لحظة تاريخية مضت. ولعل التحوّل في الموقفين التركي والعربي أخيراً حيال عصابات الأسد يمثل أبرز المنعرجات السياسية التي مرت بها الثورة السورية، التي باتت اليوم بلا داعم حقيقي يمكن أن يساعدها في التوصل إلى تسوية سياسية تلبي الحد الأدنى من طموحات الحاضنة الشعبية للثورة.
في مقابل ذلك فإن سورية التي كانت تتمتع بالاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء، تصنف اليوم من بين البلدان الستة التي تعاني من أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، مع الاعتماد الشديد على الواردات الغذائية. وأدى تضرر البنية التحتية وارتفاع تكلفة الوقود والظروف الشبيهة بالجفاف إلى هبوط إنتاج القمح في سورية بنسبة 75%، وبنتيجة ذلك فإن نحو 12.1 مليون شخص، يعانون من انعدام الأمن الغذائي حالياً، كما أن هناك 2.9 مليون شخص آخرين معرضون لخطر الانزلاق إلى الجوع، إضافة إلى أن أحدث البيانات تُظهر أن سوء التغذية آخذ في الارتفاع، مع وصول معدلات التقزم بين الأطفال وسوء التغذية لدى الأمهات إلى مستويات غير مسبوقة، إذ أن معدلات التقزم بين الأطفال وصلت إلى 28% في بعض أجزاء سورية، وانتشر سوء التغذية لدى الأمهات ليصل إلى 25% في شمال شرقي سورية.
في ظل هذه الأوضاع جاء الزلزال في مناطق شمال غرب سورية ليشرّد أكثر من 40 ألف عائلة سورية باتت في العراء أو في مخيمات إيواء مؤقتة بُنيت على عجل، حيث بلغ عدد المنازل المدمرة بالكامل والمعرضة للانهيار بأكثر من 5000، وتلك غير الصالحة للسكن بـ 23 ألفاً. وحدد عدد المتضررين بأكثر من مليون يسكنون في مناطق تعاني أصلاً من اكتظاظ سكاني كبير بسبب المهجرين الذين انتقلوا إليها للهرب من عمليات قوات عصابات الأسد وداعميه، حيث يوجد في هذه المناطق فعلياً نحو 4 ملايين شخص نصفهم من المهجرين. ومع ذلك فإن المجتمع الدولي بما في ذلك الأمم المتحدة عجزتا عن توجيه المساعدات الضرورية بسرعة إلى السوريين الذين هم في أمس الحاجة لها. ولكن زلزال الطبيعة يا للأسف ترافق بزلزال سياسي، حيث جاء ليشكّل فرصة أمام بعض الدول للانفتاح على عصابات الأسد من زاوية تقديم المساعدات الإنسانية، مع استغلال تخفيف العقوبات الأوروبية والأميركية نسبياً.
ومع كل الظلام الذي يسود الواقع السوري، إلا أن قوى الثورة والمعارضة مازالت أسيرة مصالح دول إقليمية ودولية فاعلة في المشهد، مما جعل هامش الحركة والمناورة أمامها محدود بعد أن فقدت أغلب المساحة الجغرافية التي كانت تسيطر عليها، وانكفأت إلى حيز جغرافي ضيق ومحدود في الشمال السوري يعاني من خلافات فصائلية، في ظل عجز الهياكل والقوى السياسية عن التحكم بمفاصل القرار في هذا الحيّز الذي يعد منطقة نفوذ لتركيا. وبالإضافة إلى التدخلات الخارجية، فإن قوى الثورة والمعارضة، الباحثة عن التغيير، فشلت في إنتاج كيان سياسي صلب يجمعها تحت سقف وهدف واحد، وهو ما أدى إلى بعثرة أوراق هذه القوى التي باتت أسيرة مصالح الدول الفاعلة في الملف السوري. ولذلك فإننا نعتقد بأنه قد حانت لحظة استبدال قوى ما يسمى المعارضة السياسية الرسمية من قبل عموم جمهور الثورة السورية، وسيكون الأمر أشبه بفرض أمر واقع على الأرض، تتعاطى معه الدول على أنه متغير ميداني يجب التعامل معه واعتماده ممثلاً شرعياً عن الثورة. ومن المؤكد، أن تحقيق ما تقدم، يتطلب نهوض النخبة السورية، وتجاوز تجاذبات الانقسامات الحالية، والعمل من أجل إيجاد هيكل سياسي جديد فاعل ومؤثر، وتجديد توافقات واضحة وعملية، تحظى بدعم شعبي، وتكون محط اهتمام القوى الإقليمية والدولية؛ الأمر الذي سيعزز الحضور السوري ومشاركته في عملية البحث في مستقبل سورية.
المصدر: إشراق