د- محمد مروان الخطيب
منذ بدء الثورة السورية في 2011، اتجه نحو أربعة ملايين لاجئ سوري إلى تركيا بحثاً عن الاستقرار، وطلباً للأمان الذي فقدوه في بلادهم. وفي ذات الوقت فإن حركة اللجوء هذه ساهمت بانتقال شريحة واسعة من اليد العاملة السورية التي دخلت سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي، وأثّرت فيه بشكل واضح، وقد سمحت مجالات العمل المختلفة التي استقبلت السوريين بتأمين مورد مالي مكّنهم من تأمين احتياجاتهم المعيشية بالحد الأدنى.
وتشير الإحصائيات إلى أن أعداد العاملين السوريين في تركيا يبلغ حوالي 1.17 مليون عامل، ونسبتهم لإجمالي اليد العاملة التركية 2.9%، أي أن نسبة العاملين من عموم اللاجئين تبلغ 32.5% وهي نسبة مرتفعة للغاية. إلا أن متوسط أجور العاملين السوريين في تركيا لا يتجاوز 300 دولار، وفي ذات الوقت فإن 92% منهم يعملون أكثر من 8 ساعات يومياً، و59% منهم يعملون أكثر من 65 ساعة أسبوعياً، وذلك مقابل أجور منخفضة. إضافة لكون 87% من العاملين السوريين ينتمون لشريحة الشباب (18~30) عاماً، وهذا يعني أن غالبيتهم في ذروة العمل والإنتاج، وهم يعملون بتكلفة منخفضة، وبالتالي فإن الاقتصاد التركي استفاد بشكل واضح من اللاجئين السوريين مقابل منفعة محدودة لهم. وهذا ما تؤكده تصريحات رئيس اتحاد النقابات العمالية التركية (Türk-İş) أن العمال السوريين يعملون قرابة 14 ساعة يومياً دون تأمين، ويتقاضون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور، معتبراً أن هذه المشكلة تهم الجميع بمن فيهم العمال وأصحاب العمل.
وتتوزع العمالة السورية في قطاعات الورشات الصناعية والملابس والأحذية التي استوعبت ما يزيد عن نصف العمالة السورية، يليها قطاع الإنشاءات، ثم قطاع الشركات والمحلات التجارية، ثم قطاع الأعمال الحرة، ثم في قطاع المطاعم والمخابز السورية، ويتوزع البقية في قطاعات عمل متفرقة كصيانة السيارات، والعمل في نقل وبيع الفحم، والزراعة والإعلام والتعليم وغيرها بنِسَب بسيطة. إلا أن حوالي الــ90% منهم لا يمتلكون تراخيص عمل رسمية، رغم أن 85% منهم ليس لديهم أي عائق قانوني لاستصدار هذه التراخيص، إنما يرجع السبب الرئيس لتهاون أرباب العمل والرغبة في التهرب من دفع التأمينات الاجتماعية في محاولة لتخفيض تكلفة الإنتاج، بالرغم من حرص الحكومة التركية على قوننة عملهم.
وقد غيّرت ظروف العمل في السوق التركي نمط العمل الذي اعتادت العمالة السورية عليه؛ فانتقلت هذه العمالة إلى مدة عمل أطول وأقل استقراراً، كما استوعبت سوق العمل أعداداً أكبر من النساء اللواتي تحولن نتيجة ظروف اللجوء إلى معيلات لعائلاتهن، أو اضطرتهن الظروف للعمل لمساعدة أزواجهن في تأمين دخل مقبول للأسرة، كما استقطب سوق العمل الشرائح الشابة والقُصّر بنسبة أعلى؛ فخسرت هذه الفئات فرصة الحصول على تعليم جيد في تركيا، أو استكمال الدراسة الجامعية نتيجة العديد من الأسباب. إضافة لكون أغلب العاملين السوريين، ورغم تدنّي رواتبهم دون الحد الأدنى للأجور- يطرون لتحويل جزء من رواتبهم بشكل شهري لعائلاتهم داخل سورية؛ حيث نجد أن 65% يقومون بتحويل جزء من رواتبهم لعائلاتهم.
لا يمكن لأحداً من الجالية السورية الموجودة منذ السنوات الأولى لثورات الربيع العربي، إنكار فضل الشعب والحكومة التركيين في استضافتها ومعاملتها كجزء لا يتجزأ من مكونات الشعب التركي، ولا سيما في مجال الخدمات الأساسية، والصحية على وجه التحديد، ولا يمكن أيضاً إنكار الضغط الكبير وبعض الإرباك الذي سببه هذا الوجود لمرافق الدولة، بل ولبعض مؤسساتها، وهو الأمر الذي أدى إلى تشريع قوانين جديدة والتغاضي عن تنفيذ بعض القوانين القائمة. إضافة لكون سوق العمل التركي قد أتاح للعمالة السورية الفرصة للتعرف على بعض المجالات الجديدة، والاطلاع على التطورات التقنية والصناعية، حيث يتأمل السوريون أن تنقل هذه العمالة الخبرات التي اكتسبتها مستقبلاً إلى سورية، وتشكل صلة الوصل التي تسمح للشركات والجهات التركية بالمساهمة في عملية إعادة الإعمار.
وإن كان قد أصبح موضوع العمالة السورية موضع تجاذب بين الحكومة التركية والأحزاب المعارضة؛ حيث لفتت بعض التصريحات لسياسيين أتراك النظر إلى أثر هذه العمالة في دعم بعض القطاعات الصناعية، وتأثير غيابهم الذي قد يتسبب في تأثر اقتصاد البلاد، وتركز عمل السوريين في القطاعات التي أحجمت العمالة التركية عن العمل بها، ليسد السوريون هذا “العجز”. وإن كانت الأحزاب المعارضة التركية تقلل من تأثير العمالة السورية الإيجابي؛ إلا أنها اعترفت – بشكل ما- بتأثير هذه العمالة في زيادة الصادرات التركية، ودور توظيف اللاجئين غير المسجلين على زيادة القدرة التنافسية للقطاعات الموجهة للتصدير في الخارج كالمنسوجات والأثاث؛ إلا أنها تسببت بآثار سلبية أدت إلى انخفاض المستوى المعيشي لمواطني الجمهورية التركية، مما أدى إلى زيادة البطالة. مع العلم بأن عالم الأعمال التركي يعيش حالياً حالة من الذعر بسبب عودة السوريين، إذ هناك مشكلة في إيجاد الكوادر المؤهلة والمدربة في القطاعات التي تتطلب عمالة شاقة، خاصة أن الأتراك يفضلون الوظائف الأسهل، مما يزيد المشكلة.
وإن كان من الصعب الحديث عن تحسين واقع العمالة السورية في ظل أزمة اقتصادية عالمية، إلا أن العمالة السورية وبعد سنوات من محاولات تعويض خساراتهم نتيجة نزوحهم الاضطراري من ديارهم، والعمل في مختلف المجالات، أصبحت محاولات الوصول إلى حالة الاستقرار في تركيا حلماً لمعظمهم، إضافة لوجود عوامل كثيرة أدت إلى تناقص أعداد السوريين ورسمت طريقين لا ثالث لهما “عودة طوعية” أو هجرة غير شرعية إلى أوروبا.
ومن هنا فإننا نرى من الضروري وضع خطة للنهوض الاقتصادي في مناطق الشمال السوري الخارج عن سيطرة عصابات الأسد، لإعادة بناء البنية التحتية وتشجع عودة الكفاءات والخبرات المهنية، وتهيئة بيئة استثمارية آمنة يمكنها أن تساعد في إعادة إعمار المنطقة بأيدي أبنائها. أما من ناحية العمالة في تركيا فإنه يفترض إعادة النظر في أنظمة وإجراءات الاعتراف بالشهادات السورية، وتقديم تسهيلات يمكن أن تشجع الجامعيين على تحقيق الاعتراف بشهاداتهم. إضافة لضرورة التشديد على أرباب العمل وإلزامهم باستصدار أذونات لجميع العاملين لديهم، وتحديد ساعات العمل المطلوبة بما يتناسب مع القانون، وفرض غرامات على المخالفين. كما يفترض زيادة عدد التدريبات الخاصة باللغة التركية التي تُوجه لفئة العاملين.
المصدر: إشراق