سمير سعيفان
تستمرّ العقوبات الاقتصادية ثقيلة على صدور الشعب السوري، لتُضاف إلى صعوبات الوضع المتدهور، نتيجة 12 عاما من الحرب المدمّرة التي أطلقها الحل الأمني للنظام الذي واجه به الاحتجاجات الشعبية. ورغم أن العقوبات لا تشمل عمليًا مناطق سورية الواقعة خارج سيطرة النظام، فإن أوضاع السوريين فيها ليست أفضل حالًا. وخارج أوساط السياسيين، فإن السؤال الملح هو: إلى متى؟ إلى متى ستستمرّ معاناة السوريين، فقد مضى عقد ونيف، ولا يبدو ثمّة ضوء في نهاية النفق.
يؤدّي هذا الوضع المغلق إلى إثارة الجدل بشأن جدوى العقوبات المفروضة على النظام، وبخاصة العقوبات الاقتصادية، ويصل الجدل إلى الأوساط المعارضة، وترى تلك الأصوات أنّ العقوبات، التي مضى على فرضها أكثر من عَقد لم تُؤدّ إلى إسقاط النظام، أو إلى إرغامه على قبول أي قرار أممي أو أيّ حلّ وسط، وأنها لم تردع النظام عن القمع والاعتقال والقتل تحت التعذيب، في حين أنها تؤدّي إلى اتساع نطاق الفقر وإفقار مزيد من السوريين. أما النخبة الحاكمة ومن يلوذ بها، فتعيش في بذخ وترفٍ غير مبالية بما يصيب الشعب، بل اندفع لنقل داء صناعة المخدّرات إلى سورية لتوليد مداخيل لها، فأصبحت سورية أكبر مصنع ومصدّر للمخدرات في العالم. وهو داءٌ عضال سيصعب اجتثاثه ولو بعد عقود. وبالتالي تصيب هذه العقوبات فعليًا الشعب السوري وليس النظام السوري. وقد قال المعارض عارف دليلة: “كل تجارب الحصار والعقوبات في العالم خلال حوالي قرن لم تُسقط نظامًا واحدًا، ولو استمرّت عشرات السنين، وإنما تسبّبت فقط بإفقار عامّة الشعب والتضييق على المواطنين في كل شؤونهم الحياتية، وبإعطاء الحجج لحكّامهم بالتشديد عليهم … وبعد العقوبات، تصبح الأنظمة المحاصرة آمنةً من أي ردّ فعل شعبي ضدها”. .. نعم، العقوبات يمكن أن تُسقط حكومات في أنظمة ديمقراطية، لأنّ المواطن فيها يُعبّر عن موقفه في صناديق الاقتراع، ولكنها لا تُسقط أنظمةً مستبدّة، حيث تكون عقوبة التعبير عن الرأي الاعتقال، إن لم تكن القتل المباشر.
تاريخ العقوبات الأميركية ضد النظام السوري مديد وحافل، فالعلاقات السورية الأميركية معقدة، بين العداء الظاهر والتعاون غير المعلن، وقد كانت واشنطن تعتبر النظام “مخربط ألعاب”، ويقف دومًا في موقف المواجه للسياسة الأميركية، ويميل نحو السوفييت بالمجمل. وقد بدأ فرض العقوبات الأميركية على سورية سنة 1979، وتصاعدت في سنة 2003 مع صدور قانون محاسبة سورية في ديسمبر/ كانون الأول 2003 المتعلق بسيادة لبنان، وتزايدت العقوبات الأميركية بعد غزو العراق، ثم بعد مقتل رفيق الحريري، ولكن العقوبات الأشد قسوة فُرضت بعد انطلاق الحراك السوري في مارس/ آذار 2011، بعدما رفض النظام الاستجابة لأبسط مطالب الشارع المنتفض، وقرّر مواجهته بالحلّ الأمنيّ، فتم فرض عقوباتٍ عديدة، سياسية ودبلوماسية واقتصادية وتجارية ومالية على مدى السنوات 2011 و2018. وفي أواخر 2019، صدر قانون قيصر الذي تضمّن عقوبات شديدة على النظام، وفي أواخر 2022، صدر قانون المخدّرات الذي سيوضع في حيّز التنفيذ خلال 180 يومًا من تاريخ صدوره، وستُوضع استراتيجية “لتعطيل إنتاج المخدّرات وتفكيكها والاتّجار بها، والشبكات التابعة للنظام السوري”. ويتوقع أن يكون له أثرٌ أشدّ على النظام؛ فالعقوبات السابقة كانت على أفعال النظام ضدّ الشعب، أما هذا القانون، مع أنه أميركي، فهو ذو سِمة دولية تتجاوز الحدود السورية، لأن تنفيذه سيستند إلى اتفاقات دولية لمكافحة الجريمة، بحكم تهديده أمن الدول الأخرى، وسيضع الدول المحيطة بسورية في حالة استنفار لضبط شحنات المخدّرات، وسيشدّد الرقابة المالية على تجارتها.
حقّق نظام الأسد نجاحًا نسبيًا في الالتفاف على العقوبات، وذلك بعلاقاته الاقتصادية مع دولٍ لا تلتزم بالعقوبات، مثل لبنان والعراق ومصر والجزائر وعُمان وإيران وروسيا والصين، وبتلقّي الدعم المادّي الإيراني، فضلًا عن الدعم العسكري والمليشياوي، وهو الأهمّ بالنسبة إلى النظام، إضافة إلى بعض الدعم الروسي. ولكن المسعى الأهمّ بالنسبة إلى النظام، لزيادة موارده التي غدت شحيحة، هو التوجّه نحو إنتاج المخدّرات وتهريبها إلى دول قريبة وبعيدة، إلى حدّ أن سورية تحوّلت إلى مصنع مفتوح للمخدّرات، برعاية النظام ومؤسّساته العسكرية والأمنية، وبالشراكة مع حزب الله اللبناني. وإضافة إلى الإيراد المالي الكبير للنظام، فقد أراد الأسد أن يقول للعالم: سأبقى أخلق لكم المشكلات وأتسبّب بصداع رؤوسكم، حتى تعيدوا الاعتراف بي وتأهيلي. .. ولكن الردّ الأميركي جاء قاسيًا، بإصدار قانون المخدّرات.
أدّت العقوبات الاقتصادية، بالتضافر مع تأثيرات الحرب السورية المدمّرة، مع استمرار الفشل المزمن في إدارة البلاد وإدارة الاقتصاد والفساد والنهب المستمر، أدّت مجتمعة إلى التدهور المريع في الوضع الاقتصادي، ونتجت عن ذلك ظروف حياتية صعبة جدًا لعموم السوريين، عدا قلة من النخب الفاسدة، فأصبح دخل معظم الأسر السورية أقلَّ من 50 دولارًا في الشهر، مع بطالة واسعة، وتزايَدَ عجز الحكومة في مناطق سيطرة النظام عن تقديم رعاية صحّية وتعليم مجانيين، فزادت معدّلات الفقر والفقر الشديد بشكل كبير، وأصبحت أسرٌ كثيرة تعتمد على تحويلات أقاربها في الخارج، وزادت صعوبات الحياة، مع البطالة وشحّ مصادر الطاقة وخدمات النقل وتراجع فرص العمل والتضخّم (ارتفع سعر صرف الدولار من 47 ليرة سورية في بداية 2011 إلى نحو 9000 ليرة سورية اليوم). وتصيب العقوبات جميع السوريين في العالم أيضًا، وقد أصبح جواز السفر السوري منبوذًا، وبسبب العقوبات أيضًا، أصبح فتح حساب في بنوك العالم، وإجراء تحويلات لأيّ سوري، يواجَه بتعقيداتٍ إضافية. وقد بيّنَت دراسة حديثة لمركز حرمون للدراسات المعاصرة، عن أثر شحّ الطاقة على الأسرة السورية، أنّ قلّة الوقود ومصادر الطاقة مع الفقر تركا آثارًا مدمّرة على العائلة السورية في مناطق سيطرة النظام، حيث تغيّر إيقاع حياتها وتبدّلت عاداتها وتقاليدها وقيمها، وخلّف ذلك آثارًا سلبية عظيمة. وبيّنت دراسة أخرى للمركز، عن الهجرة من مناطق النظام في السنوات الأخيرة منذ 2019 بخاصة، أن نسبة كبيرة جدًا من القاطنين في تلك المناطق يبحثون عن سبيل للهجرة إلى خارج سورية، رغم أن القتال قد توقف؛ لأن الحياة غدت لا تطاق، ولا يوجد أي بصيص أمل بانفراج قريب. ويدفع هذا الوضع المأساوي معارضين كثر إلى المطالبة برفع العقوبات، لأنها تصيب الشعب ولا تصيب الحاكم. وبالرغم من الوضع المأساوي الذي ساهمت به العقوبات، عاد كلٌّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى التأكيد على اللاءات الثلاث في وجه النظام، وفي وجه من يسعون للتطبيع معه: لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات. ولكنهم ربطوها بشرط: “ما دام النظام لا يشارك بشكل فعّال في الحلّ السياسي”.
في الصراعات، ينظر المتصارعون إلى العقوبات الاقتصادية كإحدى أدوات الصراع، فكما أن الحرب أداة عنيفة لخدمة أهداف سياسية، فكذلك العقوبات الاقتصادية تُفرض لخدمة أهداف سياسية أيضًا، وإن كانت ليست غاية بحد ذاتها، وخلال حسابات الصراع، لا يُنظر إلى العقوبات من الزاوية الإنسانية، بل من زاوية الربح والخسارة ومدى خدمتها للغايات السياسية، وإذا كانت العقوبات لا تُسقط السلطة التي فُرضت عليها، فإنها تخلق أمامَها صعوبات تُضعف قدراتها، وتنال من شرعيتها ومن تحشيد الشعب حولها، وتُساهم في إسقاطها على المدى الطويل، في حال توفرت شروط أخرى، أو فُرضت سياسات معينة عليها.
وقد حدَّت العقوبات من قدرة النظام الاقتصادية والمالية وبالتالي العسكرية، وجعلته عاجزًا عن القيام بواجباته كإدارة لمنطقة واسعة من سورية يقطنها عدد يراوح حول قرابة 12 مليون نسمة، حيث يقع عليه تأمين مستلزمات حياتهم كي يكسب الشرعية، وقد جعلته العقوبات عاجزًا عن ذلك؛ ففقَدَ احترامه، وأصبحت الصعوبات الحياتية للمواطنين مرتبطةً ببقاء النظام، وانقلبت قطاعاتٌ واسعةٌ من مؤيدي النظام إلى معارضين صامتين مرحّبين بذهابه وزواله، وتشققت القاعدة الاجتماعية للنظام، غير أن التعبير عن ذلك غيرُ ممكن، بسبب القمع الشديد، بواسطة أجهزة أمن النظام والمليشيات الإيرانية التي أحضرتها إيران من العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان لتقاتل فصائل المعارضة، فتحوّلت، مع بقايا جيشه، إلى مليشيات لحمايته من مؤيديه السابقين.
لا يُنْظَر إلى تأثير العقوبات الاقتصادية على السوريين في مناطق النظام بمعزلٍ عن مجمل الصراع الدائر في سورية وعليها، وعن نتائج هذا الصراع ومواقف الأطراف؛ وصحيحٌ أن العقوبات جعلت حياة السوريين القابعين تحت سيطرة النظام صعبة، لكنّ حياة السوريين اللاجئين في دول الجوار أو النازحين إلى الشمال السوري أيضًا صعبة، بل هي أصعب في بعض جوانبها، وخصوصا المقيمين في مخيمات اللجوء ومخيمات النزوح. وبالتالي، إن كان ثمّة دعوة إلى تخفيف معاناة السوريين، فيجب أن تشمل جميع السوريين، أينما كانوا، في حين يرفض النظام أيّ حلّ سياسي، ويصرّ على معادلة صفرية: “كل شيء أو لا شيء”، ويمنع اللاجئين والنازحين السوريين من العودة إلى بيوتهم. وقد فشلت كلّ ضغوط حكومتي لبنان والأردن في إجبار الأسد على السماح بعودة اللاجئين الراغبين في العودة إلى بيوتهم، وهناك جزء كبير منهم يرغب في ذلك، وباتوا يُفضّلون العودة إلى بيوتهم وأراضيهم وأعمالهم، رغم الظروف السيئة جدًا في مناطق سيطرة النظام، على البقاء في تلك الظروف حيث هم. ولكن نظام الأسد لم يقبل عودتهم، ورفض عودة أيّ منهم.
في السياسة الدولية المحيطة بسورية، يرى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أنّ إلغاء العقوبات المفروضة على النظام، بدون حلّ سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، أو تطبيع العلاقات معه، أو المساهمة في إعادة الإعمار، إنّما يوجه رسالة سياسية خاطئة إلى النظام وداعميه، فهي تُعدّ مكافأة للنظام، وتخليًا عن المطالبة بمحاسبته، وستُشجّع الآخرين على إعادة التطبيع معه، وستزيد قوّتَه وتعنته ورفضه هو ورفض داعميه أيّ حلّ للأزمة السورية. وبالنظر إلى تجربة إيران ورفع العقوبات عنها، بعد إبرام الرئيس الأميركي الأسبق أوباما الاتفاق النووي معها، نجد أن سياسات إيران ضد جيرانها العرب لم تصبح أكثر اعتدالًا، بل أصبحت أكثر عدوانية وأكثر قدرة، بعدما حقّق لها رفع العقوبات إيرادات مالية إضافية، من السماح بتصدير النفط على نحو نظامي، بينما أضعفت العقوبات التي فُرضت عليها قدراتها، وحدّت نسبيًا من تأثيراتها. وضمن ظروف الصراع الدولي، والغزو الروسي لأوكرانيا، لا يُتوقع أن تُرفع أو تخفّف العقوبات عن النظام السوري، وقد وجّهت كلّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رسائل واضحة إلى الراغبين في التطبيع مع النظام، شدّدت فيها على اللاءات الثلاث.
يبقى السؤال المشروع: إلى متى؟ فإذا كانت العقوبات الاقتصادية ليست غايةً بحدّ ذاتها، فإنّ أيّ عقوبات، من دون تحديد أفق واضح وأهداف محدّدة ومدًى زمني وإجراءات للوصول إلى حلّ سياسي، فإنها تتحوّل إلى عقاب للشعب السوري بالدرجة الرئيسة. والأهداف السياسية من العقوبات الأوروبية والأميركية لا تُحدّد على نحو واضح، إذ لم يذكر منها سوى الضغط على نظامٍ لا يكترث بأيّ ضغط، وقد أصبحت لغة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مطّاطة، فالاتحاد الأوروبي يربط اللاءات الثلاث بالوصول إلى حلّ سياسي وفق القرار 2254، ولم يحدّد الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة المقصودَ فعلًا بهذه العبارة، وليست لديهم أي استراتيجية للوصول إلى حلّ سياسي في سورية، والولايات المتحدة تربط تلك اللاءات “بتغيير سلوك النظام”، من دون أن تحدّد المقصودَ بتغيير سلوك النظام. غير أن تحليل السياسات والأفعال الأميركية والأوروبية يقول إن القرار الفعلي هو تجميد الوضع السوري على حاله حتى إشعار آخر غير محدّد. وعلى السوريين أن يتحمّلوا ما تعجز الجبال عن تحمّله، فقد باتت سورية اليوم مقسّمة إلى أربع مناطق، فيها أربع حكومات غير شرعية، ويتفاوت سوء الأوضاع بين منطقة وأخرى، ولكن أوضاع السوريين في المناطق الأربع سيئة إلى حد الكارثة، وأوضاع معظم اللاجئين السوريين، في دول الجوار، لبنان والأردن وتركيا، لا تقلّ عنها سوءًا، ويتسبب الوضع الحالي في إفراغ سورية من سكانها. لذا يتساءل السوريون دائمًا: إلى متى؟
المصدر: العربي الجديد