أحمد مظهر سعدو
أخيرًا التأم اجتماع هيئة التفاوض في جنيف، بعد انقطاع وعطالة وتعطيل، جاوز الثلاث سنوات ونيفاً، ويبدو أن الهيئة قد حاولت في لقائها الفيزيائي هذا، أن تحج إلى جنيف وليس إلى الرياض، بينما الناس قد رجعوا من حجهم كما يقال. ويعرف القاصي والداني أن للعطالة أسبابا ومسببات ودواعي، ويتحمل بعض منها وضع الهيئة بحد ذاته، ومحاصصاتها وتهافتها على المناصب، وإمساكها بالدفة ضمن سياقات مصلحية ذاتية، لا تمت للمصلحة العامة للسوريين بصلة الذين فوضوها أو (يفترض ذلك)، منذ سنين، من أجل مفاوضة النظام الأسدي، وصولًا إلى الحل السياسي، وندرك جميعًا أيضًا أن هناك عوامل إقليمية وعربية، حالت دون عقد الاجتماعات، وساهمت هي الأخرى في العطالة والتعطيل، ليس آخرها موضوع كتلة المستقلين، التي أصرت المملكة العربية السعودية على استبدال بعض منها، وسط رفض الائتلاف ومن يدعمه، كما أن الخلافات البينية العربية الخليجية مع الدولة التركية، ساهمت كذلك في عدم الوصول إلى حل توافقي، كان من الممكن أن يحصل، وتعود الهيئة إلى اجتماعاتها، رغم عدم جدواها، وضآلة قدراتها على الفعل والتغيير، في ظل هيمنة الروس والإيرانيين على (السيادة السورية) في دمشق وإعاقة أية عملية مفاوضات من الممكن أن تؤدي إلى الولوج في حل سياسي، يتوافق مع قرارات جنيف ذات الصلة.
لكن أما وقد حُلت الخلافات التركية الخليجية، وأصبحت الأمور سمنًا على عسل، كما يقال، ومع تأخر الوصول إلى عقد أي اجتماع للهيئة، فقد مضت الأيام والسنوات وتغيرت الكثير من المعطيات، وأصبحت مسألة التطبيع مع نظام الأسد تمشي بسرعة غير معهودة، بعد التفاهم السعودي الإيراني الذي جرى في 10 آذار/ مارس الفائت في الصين وبرعاية صينية، فإنه اليوم وبعد المضي بتؤدة في تطبيع آخر بين تركيا والنظام السوري، برعاية روسية إيرانية، فإن قضايا هيئة التفاوض والعودة إلى مسارات جنيف الأولى أضحت من الماضي، رغم صحتها وسلامة قراراتها، وبالرغم من إصرار السوريين عليها ما عدا نظام الأسد، حتى إن مسار اللجنة الدستورية صار معطلاً منذ الحرب الروسية الأوكرانية، وهو الذي لم يؤت أكله، ولا استطاع أن يتقدم قيد أنملة في جولات اللجنة الدستورية الثماني، حتى باتت رحلة الشتاء والصيف إلى اللجنة الدستورية، مجالًا للتندر واستذكار تصريحات وزير خارجية النظام السابق (وليد المعلم)، الذي أكد أنه سيغرقهم في التفاصيل وقد فعلها، وتابع المسير من أتى بعده، لأن نهج النظام غير مقتنع بأي حل سياسي، وكان وما يزال خياره الوحيد هو الحل الأمني والعسكري، فكيف اليوم وقد أصبح النظام السوري منتشيًا ويهلل للنصر المفترض، بعد أن تهافت العرب وغيرهم للتطبيع معه، وإعادته (المظفرة) إلى جامعة الدول العربية، التي سبق أن تم تجميد عضويته فيها منذ نوفمبر/ تشرين ثاني 2011، لكنه اليوم عادة (منتصرًا) في أيار/مايو الفائت، ليُسمع الجميع خطبة (فلسفية) عصماء، أكدت عدم تراجعه، وإصراره على استمرار المقتلة السورية، ورفضه الحل السياسي، واحتمالاته للجلوس مع النظم العربية فقط من أجل حل إشكاليات (الخطر الكبتاغوني) الذي أضحى مقلقًا لدول الخليح، بل والعالم أجمع، بعد أن تم تصنيف الأسد (ملك الكبتاغون) في العالم.
سيعود المجتمعون في جنيف بخفي حنين، وسيعودون كما جاؤوا، أكثر عطالة وتعطيلًا، ولن يكون بإمكانهم اليوم تحريك أية عملية تفاوضية، أو مسارات جديدة للحل، في ظل التهافت العربي والصمت الدولي والإقليمي، عن كل جرائم بشار الأسد ونظامه، الذي أوصل الواقع السوري إلى ما هو عليه اليوم، من حالة فوات وقلة حيلة، وخراب للبنية التحتية السورية بما يتجاوز الـ 65 بالمئة، وسجون ومعتقلات تغص بالمعتقلين والمغيبين قسرًا، وخط للفقر في سوريا قارب التسعين بالمئة، وإعادة إعمار وهمية، وعاجزة عن الفعل، بعد أن أصبحت تكاليفها تتجاوز عتبة 500 مليار دولار، حسب تقديرات أممية.
لم يعد بالإمكان ضمن هذه الأجواء وهذا المشهد السوري والإقليمي والعالمي أيضًا، أن تستطيع هيئة التفاوض السورية، المضي بأي مسار جدي يمكن أن يفضي إلى الحل، وسط تصورات وتسريبات تشير إلى ضلوع بعض أطراف المعارضة السورية في حوارات فردية بينية مع نظام القتل الأسدي، بنصيحة دولية وإقليمية، علاوة على ما يجري الحديث عنه من أن خلافات ما زالت داخل هيئة التفاوض حالت دون مشاركة منصىة القاهرة، وقد تحول دون الوصول إلى تفاهمات حقيقية، حتى لو كانت العلاقات بين الطرفين الرئيسيين، هيئة التنسيق، والائتلاف في أحسن حالاتها، كما يتبين عبر تنسيق يومي متواصل، من أجل تأسيس لوبي أقوى داخل هيئة التفاوض، في وقت يجري فيه الحديث متواترًا عن احتمالات ضم منصات جديدة إلى الهيئة، قد يكون منها (قسد) أو (مسد)، فيما لو تمت الموافقة التركية على ذلك.
خلال السنوات المنصرمة كانت هيئة التفاوض، حتى عندما كانت فاعلة ومدعومة خليجيًا وعربيًا، عاجزة عن الفعل والتأثير، ومشلولة عن العمل الذي يفضي إلى أي تقدم، لكنها كانت موجودة كجسم متكامل، بينما اليوم وفي ظل الأجواء العربية الآيلة إلى علاقات أكثر وأمضى مع النظام السوري، بالرغم من الرفض الأميركي الشكلاني المعلن، فإن أي حديث عن حل سياسي تفاوضي أو قدرات فاعلة لهيئة التفاوض، في قادم الأيام وفي سياقات إقليمية غير خافية على أحد، لم تعد حقيقية ولا جدية ولا يوجد احتمالات لإعادة إنتاجها. فالروس منشغلون بحربهم في أوكرانيا، وفي مواجهة الغرب قاطبة، والسعوديون ودول الخليج في معظهم معنيون فقط في وقف الحرب باليمن، التي كانت وما زالت تشكل لهم قلقًا أمنيًا صعبًا، ومن ثم فإن الاستمرار في العلاقة الحسنة مع الإيرانيين الداعمين لنظام الأسد، هي الأكثر إمكانية للحركة والمسير، وهو ما نلحظه عبر لقاءات وتوافقات بين الطرفين مابرحت تواكب إحداها الأخرى، وبالطبع فإن العودة إلى مسارات الدعم السابقة للمعارضة السورية، لم تعد واردة ضمن هذه المعطيات، وقد تعرقل العلاقة مع إيران وهو ما لا تريده المملكة العربية السعودية ولا معظم دول الخليج.
من هنا فإن اجتماع هيئة التفاوض في جنيف لن تؤتي بأي جديد أو مفيد للشعب السوري، وستكون كمن يحج وقد انتهى موسم الحج أصلًا، ولم يعد هناك (صعيد لعرفة)، وسيعود المجتمعون كما جاؤوا بخفي حنين، ولن تفيدهم كثرتهم كثيرًا، ولا تعدد منصاتهم، والأيام قادمة وحبلى بالكثير من المستجدات، بالرغم من خيارات الشعب السوري الذي ما انفك يُصر على المضي بثورته رغم كل هذا الوضع العربي والإقليمي البائس، وذلك الاستعصاء في الحل.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا