محمود الوهب
لا يمكن فهم ما جرى في روسيا يوم السبت 24 تموز 2023 دون الرجوع إلى العهد البوتيني، ومحاولة قراءة أبعاده وعمقه. فما جرى يعكس طبيعة ذلك النظام القائم منذ ثلاث وعشرين سنة، وإن ارتبط مجيئه بالعمل على استعادة قوة الاتحاد السوفييتي السابق ومجده.. دون تحديد الطريق إلى ذلك أو معرفته.. فما الذي كانت تحتاجه روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي الذي انهار عام 1991؟! وهل كان بوتين قد فهم فعلاً ما يجب عليه ونظامه أن ينطلقا منه، أم إنه لم يقتنع بالحقائق الكثيرة التي أكَّدها العلماء السوفييت في أبحاثهم عن سبب الانهيار؟! ودونما الدخول في التفاصيل، وهي كثيرة ومتشعبة، يمكن إيجازها بكلمة واحدة هي: الديمقراطية التي افتقدها الاتحاد السوفييتي على مدى سبعين عاماً، وكانت سبباً في انهياره رغم قوته العسكرية/النووية التي خلقت نوعاً من توازن إيجابي بين عالمين متناقضين في التوجه والأساليب..
فالديمقراطية التي ترسم أسس التعبير عن الحريات بمعانيها كافة.. وعن غايتها الإنسانية في حياة الشعوب وإبداعها، وفي تنمية بلدانها وتقدمها.. فقد غابت كلياً على مدى الحكم السوفييتي لتسبب في النهاية تخلفاً في أهم سمات حضارة اليوم، وهي التكنولوجيا الرفيعة.. وهذا ما كشفه علماء الاتحاد السوفييتي الذين انبروا لدراسة أسباب السقوط المدوي لدولتهم وتفككها عام 1991، ودعوا إلى تجاوزه، لكنَّ الرئيسين اللذين جاءا بعد الانهيار وهما: بوريس يلتسين، وفلاديمير بوتين، لم ينتبها إلى ذلك، وبالتالي لم يحققا الإصلاح الذي سعى إليه ميخائيل غورباتشوف صاحب فكرة “البريسترويكا” (إعادة البناء) إذ لم يسمح له الانهيار الدراماتيكي الذي بدا وكأنه كان ينتظر إشارة ما..
وحين تسلم بوريس يلتسين أمين منظمة موسكو للحزب الشيوعي قيادة روسيا، وكان أن أفشل انقلاب الضباط الأربعة على غورباتشوف، لكنه لم يستطع إيقاف الفوضى التي سادت خلال سنوات حكمه العشر، وأسفرت عن تخريب معظم البناء السابق، وسرقة معامله وأدواته ومواده ممن عرفوا بالفئات الأوليغارشية..
استعان يلتسين بـ “بوتين” رجل المخابرات، وأحد رجال الدولة العميقة المنهارة.. ولم يكن ليؤمن بغير مصدر وحيد للقوة هو القمع دون النظر إلى روح العصر، فلم يلتفت إلى استنتاج العلماء بل حاول تقمُّص شخصيات روسية قوية أمثال “بطرس الأكبر”، و”ستالين” اللذين ساهما بتوسع دولة روسيا وبسط نفوذها وأحياناً هيمنتها الكاملة على دول الجوار.. ولم يدرك أن ستالين عندما تقاسم مع روزفلت وتشرشل في مؤتمر يالطا بتاريخ 4- 11- 1945 كان الجيش الروسي قد علق العلم الأحمر فوق “الرايخستاغ” (البرلمان الألماني) بعد أن فقد نحو 26 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية.. كذلك لم ينتبه إلى أنَّ بطرس الأكبر كان يرى في أوروبا الغربية نموذجه، إذ “أراد تغيير أذواق الروس وتعريفهم بالتراث الثقافي الأوروبي.. فأمر رجال حاشيته ومستشاريه الملتحين بحلقها (تقليداً للأوربيين)، فلمَّا امتعضوا، استدعى اثنين من الحلاقين وراح يقصُّ اللحى بنفسه.. كما رعى بطرس الأكبر إرسال الطلبة الروس إلى الجامعات الأوروبية”، كان ذلك في القرن الثامن عشر..
وعلى العكس مما تقدَّم، عمل بوتين على التخلص من فوضى حكم سابقه، بـ “عقد صفقة كبرى مع الطبقة الأوليغارشية (لصوص الدولة الكبار)” بين أعوام 2000 و2004 وكان جوهر الصفقة أن ترك لهؤلاء معظم ممتلكاتهم وسلطاتهم، مقابل دعمهم له من خلال حزب روسيا الموحدة.
وبذلك يكون بوتين قد أعاد سيرة الاتحاد السوفييتي على نحو أكثر عبثية ومهزلة، إذ أخذ يلعب بالديمقراطية، ويخدع الشعب مستعيناً بأجهزة الأمن، وكان عند الحاجة يلجأ إلى الاغتيالات.. إذ “اغتالت أجهزته الأمنية الصحفية آنا بوليتكوفسكايا، لأنها كشفت عن حال الفساد في الجيش الروسي وسلوكه في الشيشان، فقُتِلت في بهو مبنى شقتها يوم 7 أكتوبر 2006، وهو يوم ميلاد بوتين. وأثار مقتلها انتقادات دولية، واتهام بوتين بعدم حماية وسائل الإعلام المستقلة في البلاد. ما دعا بوتين نفسه للقول إن وفاة الصحفية سببت للحكومة مشكلات أكثر من كتاباتها”.
ما حدث في روسيا البوتينية أمر كثير الحدوث في بلدان العالم الثالث، (بقايا النظم الإقطاعية) وربما يكون النظام السوري نموذجه، فهو الأكثر مهزلة سواء في تزوير الانتخابات، أو من خلال الترشح الصوري لبعض عملاء الأجهزة الأمنية الذين لا يخجلون من أنفسهم..
لا شك في أن انفجار يفغيني بريغوجين قائد قوات “فاغنر”، على ذلك النحو أمر مثير للدهشة ويدعو للسؤال عن خلفياته! وسواء تعلق الأمر بوزير الدفاع، أو برئيس الأركان أو بالرئيس بوتين بالذات. فهو يكشف عن عمق أزمة نظام الدولة الروسية ويمكن الإشارة إليها بما يلي:
أولاً- أنَّ “يفغيني بريغوجين” يعرف “البير وغطاه” وهو الذي يقدِّم الدم ليحقق الانتصار لبوتين، وقد خذله وزير الدفاع، ويبدو أنه لا يريد أن يرتبط أي نصر بالميليشيا، بل بالجيش الذي يقوده! حتى وإن كان على حساب تقدُّم الجيش الأوكراني بردِّه المعاكس، وهذا ما حدث بالفعل..
ثانياً- إن الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت عورات النظام السياسية والعسكرية والاقتصادية ففي السياسة يعاني نظام بوتين الكثير من المشكلات.. فمن معارضات حقيقية تستمر رغم شدَّة القمع.. فهو يعتقل المعارضين ويتخلص منهم بالاغتيال أو التسميم.. ولا يخجل من إنزال مؤيدين مدفوعي الأجر تأييداً له، تماماً كما النظام السوري.. أما من الناحية العسكرية فيكفيه أنه غرق في هذا المستنقع الاستنزافي منذ نحو خمسمئة يوم دون تحقيق أي انتصار يعتَدُّ به.. أما الاقتصاد الروسي فلم يزل متخلفاً عن اقتصاديات معظم الدول الكبرى رغم امتلاك روسيا للكثير من ثروات النفط والغاز والمعادن الثمينة وبيع السلاح الذي يأتي بعد الولايات المتحدة الأميركية..
ثالثاً- إن الأزمة التي فجَّرها يفغيني بريغوجين مفتوحة على المدى المجهول، فلا أحد يقدِّر نتائجها، فهي تعكس واقع الدولة الروسية وضعف بنيتها، فعلى الرغم من قوتها العسكرية الفائقة، وغنى ثرواتها الطبيعية، لم تستطع السلطات التي تناوبت عليها خلال مئة عام بناء دولة عصرية تستثمر إمكانات شعبها..
أخيراً لعلَّ نتائج الأزمة منوطة بأمرين متداخلين فيما بينهما. أولهما تأثر الأوضاع الداخلية القابلة للانفجار بما حدث، وثانيهما نتائج حرب بوتين على أوكرانيا التي تلوح بغير ما كان يفكر به بوتين ويحلم..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا