معقل زهور عدي
بينما اتسمت عقود السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في سورية على صعيد النخب السياسية السورية بانتشار الفكر الماركسي الذي انقسم إلى فرعين انشق أحدها عن الستالينية بينما بقي الثاني أمينا للماركسية بطبعتها الستالينية حتى النهاية .
وحين جاء عقد التسعينات حاملا معه انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية كلها , وانهيار الاشتراكية داخل روسيا , ومانجم عن ذلك من تراجع الفكر الماركسي على صعيد العالم كله , وتقلص نشاط الأحزاب الاشتراكية إلى الحد الذي أوشكت فيه على الاختفاء في أوربة وأمريكا والعالم , حينذاك بدأت عوامل التحلل ضمن الفكر الماركسي السوري .
تقلص حجم وتأثير الحزب الشيوعي السوري الستاليني إلى الحدود الدنيا وتحول لمجرد جماعة ترتبط بالعلاقات التنظيمية القديمة والصداقات الشخصية والموقف السياسي القريب من النظام , وصولا للمنافع الشخصية .
ابتعدت المنظمات الماركسية الأخرى شيئا فشيئا عن الماركسية نحو اندماج في المرحلة السياسية التي بدأ يتضح عنوانها في التغيير الوطني الديمقراطي .
وإذا ابتعدنا قليلا عن الأحزاب والمنظمات السياسية نحو عالم النخب السياسية الأوسع نجد انزياحا لدى النخب التي تأثرت بطريقة أو أخرى بالثقافة الماركسية سابقا نحو الليبرالية .
وضمن ذلك التحول فقدت تلك النخب بوصلتها الفكرية وعاد الحنين بها نحو الايديولوجية , فاتخذت من الليبرالية ايديولوجية بديلة , وبرزت آثار تلك الايديولوجية في الشق السياسي بالموقف المرحب بغزو الولايات المتحدة للعراق واعتباره عملا تقدميا يخدم نشر الديمقراطية في المنطقة , والتنظير للتدخل الغربي ( الأمريكي ) في سورية عقب الثورة السورية في 2011 .
أما الشق الفكري فظهر في فريق آخر من النخب عبر ايديولوجيا التغرب التي تعني تحديدا قطع كل صلة بالثقافة والحضارة العربية – الاسلامية , واعتبارها مرحلة سوداء في تاريخ الشعب السوري , ونفض اليد منها نهائيا , ومهاجمة الاسلام باعتباره أصل تلك الثقافة المتخلفة , وإدانته بصراحة ووضوح .
أخفت تلك النخب بعناية ماضيها وجذورها الماركسية – الستالينية كما يخفي المرء أسراره المخجلة , ولبست ثوب الحداثة النقي الأبيض الفضفاض , وداعبت سرا كل النزعات المعادية للعرب والاسلام , ثم اتصلت معها لتؤلف أوركسترا متناغمة الألحان تصب في سمفونية واحدة كراهية العرب والاسلام .
بالطبع لايمكن لتلك الليبرالية الحداثية أن تفعل شيئا في حقل السياسة , فوظيفتها الوحيدة هي الهدم وليس البناء , وهي قد أنزلت من على عاتقها أي كفاح سياسي ديمقراطي داخل المجتمعات العربية الاسلامية يعتمد الشعب كأداة للتغيير . وهي تعرف بعمق أن بضاعتها الايديولوجية مقتصرة على دوائر نخبوية معزولة , لذا فحقلها المفضل للنشاط والفعل هو الحقل الثقافي .
اضطلعت الليبرالية الغربية في مرحلتها بوظيفة تاريخية تقدمية واضحة المعالم , فقد كانت ايديولوجية الرأسمالية الصاعدة التي حملت معها البورجوازية المدينية إلى السلطة السياسية بديلا عن السلطة الملكية المطلقة الاستبدادية , كما حملت أفكار الحرية والمساواة والعلمانية بوجه تغول الكنيسة في حياة الناس والدولة .
لكن الليبرالية الغربية الجديدة تحولت في القرن العشرين إلى ايديولوجيا الرأسمالية الامبريالية , وقد رأينا جانبا من فعلها الاحتلالي المدمر في العراق حين صعد فرعها الأكثر تطرفا نحو السلطة ممثلا بجورج بوش الأبن وفريقه من الليبراليين الجدد أمثال : اليوت ابرامز , ريتشارد بيل , بول وولفيتز , ديك تشيني , دونالد رامسفيلد .
تخامدت فعالية ذلك التيار بعد فشل تجربة العراق , لكن الليبرالية الأمريكية الحديثة ظلت متأثرة بذلك التيار بفعل عجزها عن طرح بدائل ايديولوجية جذابة , فلم تجد سوى التحول نحو حداثة مغرقة في الحرية الشخصية والالتفات لتهميش الأقليات , وشيء من الانكفاء في السياسة الخارجية .
أما ليبراليتنا المحلية فاكتفت بمهمتها ” الحداثية ” في مهاجمة الحضارة العربية – الاسلامية وتسويد تاريخها ومهاجمة الاسلام واعتباره أصل العنف والارهاب , أما جميع المهام الأخرى فهي ثانوية وظيفتها خدمة الهدف الرئيسي .
هذه الايديولوجيا الليبرالية السورية لاتهتم كثيرا بفحص التاريخ والحقائق , فهي ليست فكرا مفتوحا قابلا للتعديل والتغيير بل هي ككل ايديولوجيا جسم صلب ومغلق على ذاته , يعيش على تكرار موضوعاته , وتزييف الواقع ليتناسب مع الايديولوجيا .
تحت دعوى الحداثة المزيف تحاول تلك الايديولوجيا تصوير أن التقدم نحو المستقبل يشترط نبذ الحضارة العربية الاسلامية ونبذ الاسلام بل واعتباره مسؤولا عن التخلف .
في حين أن التفاتة واحدة نحو تركيا , وكيف ترافق صعودها الفائق في العشرين عاما الماضية مع العودة نحو التراث العثماني – الاسلامي كفيل بتحطم تلك الخرافة .
لكن مابين الايديولوجيا والأسطورة تخادم لايمكن أن يزول مهما كانت الوقائع صادمة .
ستبقى الاسطورة سلاحا حيويا للايديولوجيا , مثلما كانت الديماغوجيا والتضليل لازمين لجدتها الستالينية .