محمود الوهب
أعادت عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة التحرير الإسلامية (حماس) يوم السابع من أكتوبر 2023، إلى مناقشة القضية الفلسطينية بكل ملابساتها، وقد اختلف القوم بين مؤيد ورافض للعملية، وتعلل الرافضون بما سوف يترتب عليها من نتائج سلبية، إذ سيتلوها ردود أفعال العدو الصهيوني المعتادة، وأولها شدة الانتقام من المدنيين الفلسطينيين، وبخاصة الأطفال والنساء، إضافة إلى ما ستحدثه من خراب مادي في المباني السكنية والتجارية، والوسائل الخدمية المختلفة.. وهذا ما حصل فعلاً، إذ ماتزال الوحشية الإسرائيلية بكامل عدتها مستمرة..
كما أعاد بعضهم النظر إلى حركة “حماس” وتطرفها، وأصل نشأتها، وعلاقاتها، والإيديولوجيا التي تعتنقها، ثمَّ صراعها على السلطة مع منظمة التحرير، وأنها تحوَّلت من مركز إسلامي خيري عام 1973 إلى حركة كفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي بعد أشهر من انفجار انتفاضة الحجارة عام 1987، إذ قيل حينها: إنها وجدت لتكون نداً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وإنها، بما توصف به من تطرف، تجرُّ الويلات على الشعب الفلسطيني.. كل ذلك استدعى إعادة النظر إلى جوهر مشكلة التطرف ودواعيه؟! وإلى مآل القضية الفلسطينية كلها. وعلى ذلك يمكن استنتاج ما يلي:
في القضية الفلسطينية والتطرف
لاتزال إسرائيل ترتكب المجازر بحق الشعب الفلسطيني، منذ أكثر من مئة عام، أي منذ وعد “بلفور” البريطاني عام 1917 الذي نصَّ على إقامة دولة لليهود في فلسطين. كما أنها تدير الظهر لقرارات الأمم المتحدة، وللاتفاقيات التي تبرم بينها وبين ممثلي الشعب الفلسطيني الذي ينزف دماً وقهراً، وهو يرى أرضه تسلب منه قطعة بعد أخرى، بدواعي شتى، حتى لم يبق من أرض فلسطين التي نص عليها قرار التقسيم سوى 22% بينما هي في قرارا التقسيم 45% وتعلن إسرائيل اليوم صراحة عن حقها في فلسطين كاملة، وبترحيل بقية الفلسطينيين إلى سيناء أو سواها وفق اختراع ما سمي بـ: “صفقة القرن”.. وهذا ما تقوم به الآن تحت الحماية الأمريكية.. إن معظم حركات التحرر الوطني وعلى مدى تاريخها توصف بالتطرف والإرهاب، فهل سمع أحد منا أن أيَّ محتل قال عن الوطنيين الذين يناضلون لتحرير بلادهم: إنهم على حق وعليَّ أن أغادر بلاده، وأمنحهم الحرية والاستقلال.. إن ذلك لم يرد في تاريخ الاستعمار، وألوان الاحتلال.. فالمحتل غالباً ما يغلق الأبواب والنوافذ في وجه الشعوب التي يحتلها بالقوة والإرهاب. ثم يمنعها بالقوة ذاتها من المطالبة بأبسط حقوقها، ولا يخرج إلا بعد المزيد من المجازر وسفك الدماء..
بعض من دروس عملية طوفان الأقصى وما سبقها
أولاً: تبين من عملية طوفان الأقصى قدرة المقاومة على فتح ثغرة في جدار إسرائيل الكتيم، والنيل من عنجهية إسرائيل، كما بين هشاشة وضعها الطارئ لا على فلسطين فحسب، بل على المنطقة برمتها، وهو غير قادر على تحمل الخسائر، صغيرة كانت أم كبيرة! وقد بدا ذلك من تهافت الإسرائيليين على الهجرة المعاكسة.. ما يذكِّر ببداية حرب تشرين عام 1973 وللردِّ على ذلك أخذت تظهر وحشية العدو إذ استفرد بمدنيي غزة وممتلكاتهم، ومنشآتهم الخدمية التي تعد شرايين حياتهم..
ثانياً: لا يمكن لأية حركة مقاومة فلسطينية واحدة أن تنفرد في عملياتها فلا بد من وحدة الصف والهدف اللتين تستندان إلى مبادئ الديمقراطية.. كما يمكن الإشارة هنا إلى أنَّ انتصار الفيتناميين يعود بالدرجة الأولى، إلى وحدة قواهم السياسية والاجتماعية، إذ انضوى اثنان وسبعون منظمة وحزباً وجمعية، تحت شعار واحد وقيادة واحدة. ولاشك في أنَّ ذلك تحكمه روح الديمقراطية التي تؤالف ما بين الأطراف على أسس من وحدة الهدف والمصير.. فذلك ما يقوِّي الكل مادياً ومعنوياً، ويساهم في حساب نتائج أية عملية كفاح لجهة الربح والخسارة، لا من النواحي المادية فحسب، بل لجهة أرواح الناس التي هي الثروة التي لا تقدر بثمن، وهي في النهاية ملك للوطن..
ثالثاً: في الحال الفلسطينية لابد من الاستفادة من محيطها العربي الطبيعي، على الرغم من ضعف العلاقات العربية البينية عموماً، وصرعاتها الغالبة في أحيان أخرى! وأن التضامن العربي عموماً لا يرقى إلى أن المعركة مع العدو الإسرائيلي واحدة.. ومع ذلك تبقى ثمة قواسم مشتركة تلتقي عند القضية الفلسطينية لتلامس مصالح أوطان الجميع، ومصيرها على المدى البعيد..
رابعاً: لا بد من الأخذ في الحسبان أن القضية الفلسطينية تأذت كثيراً من إدخال إيران شريكاً فيها، فقد تبين أن إيران من أكثر المتاجرين بها! يظهر ذلك من تفريغ ما يسمى بدول الطوق من أية إمكانية للمساهمة بنصرة القضية الفلسطينية وقت الشدة، لا لأنها تمسك بقرار تلك الدول السياسي، بل لأنها شغلتهم بصراعات جانبية عمرها 1400 عام، ودمرت بنية دولهم الداخلية سياسياً واقتصادياً وخدمات، ومستوى عيش، وولدت الكراهية ضمن المجتمع الواحد. وثمة أسباب أخرى لدمار تلك البلدان لكن المخالب الإيرانية واضحة الدلالة فيها..
خامساً: حاولت أمريكا تحييد إيران منذ البداية، إذ أتت تصريحات المسؤولين الأمريكيين الكبار “أنه لا يوجد دلائل على أنَّ إيران لها أصابع في عملية طوفان الأقصى” لتؤكد وتحذِّر، وربما من هنا أنَّ إيران ماتزال متقيدة بذلك الموقف المحايد.. حتى إنَّ ميليشياتها في لبنان وسوريا لم يأتوا بأية حركة، وإن كان حزب الله يتبادل مع إسرائيل القذائف في فضاء منطقة شبعا وفراغ أراضيها..
سادساً: جاءت العملية والرد الوحشي عليها، لتنفي مبررات التطبيع العربي مع العدو الصهيوني كما أنها دعمت الدول التي تشترط حلاً للقضية الفلسطينية قبل أية خطوة تطبيع..
سابعاً: بيَّنت مجمل أحداث العملية أن ثمة خيطاً يشد الاستبداد إلى الاحتلال، وأن شعوب المنطقة متعطشة إلى ديمقراطية حقيقية.. برز ذلك من خلال عنف الرد على المطالبة بحقوق المواطنة، والمثال الساطع ما جرى في سورية عام 2011 إذ لم يطالب السوريون بأكثر من أن يتساوى المواطنون فيما بينهم، دون أي تمييز بين مواطن وآخر مهما كانت المسوِّغات. فكان أن تشرد نصف سكان سورية وبرر المستبد ذلك بالتجانس، وما تفعله حكومة نتنياهو اليوم هو الأمر نفسه إذ تقوم بتهجير سكان غزة بالكامل.. فضلاً عن أن ردود الطرفين الوحشية تساوت في قصف المستشفيات، والمخابز، وسبل الحياة المباشرة الأخرى..
ثامناً: لم تمض عدة أيام على أكاذيب نتنياهو أمام العالم حتى تكشفت، وافتضح أمرها، فقد تبين أن المقاومين لم يعتدوا على أية امرأة أو طفل، وعلى ذلك، فقد تغيَّر الموقف العالمي من حالة الصمت أو تأييد إسرائيل إلى إدانة ممارساتها غير الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني، وقامت المظاهرات ضد عدوانها في معظم عواصم العالم.. وهذا يشير إلى أهمية الإعلام في تأثيره في الرأي العام العالمي..
تاسعاً: إنَّ عملية “طوفان القدس” تأتي في سياق حركة التحرر الوطني الفلسطينية التي تقرها القوانين الدولية كافة، وقد طاولت العملية مستوطنات انتزعت من الفلسطينيين دونما مبرر، وهي خارج قرارات الأمم المتحدة، وبخاصة قرار التقسيم رقم 181 تاريخ 29 تشرين الثاني 1947، وخارج إطار أية اتفاق آخر جرى فيما بعد بين الفلسطينيين والإسرائيليين..
عاشراً وأخيراً.. إن الرد الوحشي وعملية التهجير القسري، وحجم الضحايا من الفلسطينيين الذي بلغ حتى الآن نحو أربعة آلاف قتيل، بينهم نحو 60% أطفال ونساء، واثنا عشر ألف مصاب، أخذ يحدث تبدّلاً لا في الرأي العام العالم فحسب، بل داخل المجتمع الإسرائيلي، وتقسيماته السياسية، وأفراده أيضاً، الأمر الذي سينعكس على نتنياهو وحكومته التي كانت سبباً فيما حدث قبل وبعد العملية، وربما فتح الباب أمام حل الدولتين الذي تعرقله إسرائيل بغية حيازة فلسطين كلها والخلاص من الفلسطينيين الذين يرعبونها بحقوقهم، وعدالة قضيتهم.. يظهر ذلك من خلال تهجير سكان غزة بالكامل لكن عدداً من الدول العربية الفاعلة تعارض هذا الأمر بشدة.. ويبقى الحال مفتوحاً على احتمالات عدة..