أيمن أبو هاشم
يُقال إن الحقيقة هي أول ضحايا الحروب، فكيف حين يعتاد العالم على نهجٍ متمادٍ في تغييبها وتزييفها، كما هي عليه طيلة خمسة وسبعين عاماً من الصراع القائم في فلسطين. لم يكن العقل الصهيوني قبل 7 تشرين اول/أوكتوبر 2023 بحاجة إلى جهدٍ كبير، للحفاظ على متون روايته القائمة على تعويض أباطيلها المكشوفة بقوة العضلات. بعد عملية طوفان الأقصى التي صعقت الوعي الجمعي الإسرائيلي، وخلخلت الركيزة الوظيفية التي بنيَ عليها هذا الكيان منذ وجوده، وهي الأمن المحصن بالردع غير القابل للتصدع، عاد سؤال القلق الوجودي الإسرائيلي؛ بعد سنوات طويلة من احتجابه خلف تحولات فلسطينية وعربية ودولية، سؤالاً محمولاً على فزع جمعي غير مسبوق من قدرات العقل الفلسطيني،على اختراق منظومة الأمان الإسرائيلية بكل ما تملكه من أعتى وسائل الرصد المبكر، والدفاع المُحكم عن المجتمع ومؤسسات الدولة.
فداحة ما واجهته إسرائيل في لحظة ذهول تامة، وانهيار خطوط دفاعها بتلك الطريقة الدراماتيكية، كأننا أمام فيلم سينمائي محبوك بدهشة وإتقان لافتين. كان لها في الطرف الفلسطيني المقابل، معانٍ ودلالات ذات صلة باستعادة روح التحدي والعنفوان والكرامة الوطنية، لشعبٍ كان يتوخى انتصاراً ما، بعد ستة عشر عاماً من حصار جائرٍ وخانق، وحروب استنزاف متتالية، وانقسام داخلي مهين، وتطبيع عربي مشين. رأى الفلسطينيون في معظمهم، حتى المنتقدون لسلوك الحكم الحمساوي في غزة، ولتحالف الحركة مع إيران وحزب الله “وكاتب المقال منهم”، أن ثمة ضرورة لردٍ مدوّي يُغرق جبروت وعنجهية الاحتلال، وردعه عن سياسات القتل والاعتقال والتعدي والاستباحة، التي أمعن فيها اليمين الصهيوني المتطرف والعنصري بحق الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم.
على صخب هذا التحول النوعي الفارق في تاريخ الصراع، ومآلاته الراهنة والمستقبلية، اتفقت جميع الأطراف المعنية بهذا الحدث على نقائض مواقفها منه، إلى القول: إن زمن ما بعد 7 تشرين أول/أوكتوبر، لن يكون كما بعده. لم ننتظر وقتاً طويلاً، حتى اتضحت طبيعة الرد الإسرائيلي على مهانة “الجيش الذي لا يقهر” وتغطيته برواية تدغدغ جمهور الإسلاموفوبيا ومفادها: ” حماس باتت المعادل الفلسطيني لداعش، والانتقام الجماعي من الغزيين هو المعادل الموضوعي للقضاء على حماس”. مع تلقف حلفاء إسرائيل الغربيين لتلك الرواية، واحتضانهم لها بلا حدود، توفرت رخصة دولية مفتوحة، أباحت لإسرائيل تحويل قطاع غزة، إلى أرض محروقة، وقودها محو عائلات بأكملها، وتدمير ممنهج لأحياء المدينة وما تبقى من بنيتها التحتية، وقطع كل شرايين الحياة عن مليونين ومئتي ألف غزاوي، محرومين من كل شيء سوى الموت في كل لحظة، طالما أن “العالم الحر” لم يجد أدنى غضاضة في نعت وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت الفلسطينيين بالوحوش البشرية، بهدف نزع الإنسانية عن شعب بأكمله، وتسويغ قتله جماعياً بلا رحمة، كما يشهد عدّاد المجازر المتواصلة، منذ ساعات العدوان الأولى، إلى مجزرة مشفى المعمداني، وما تلاها من توغل في سفك دماء الفلسطينيين دون رمشة جفن.
تجري تلك الفظائع المهولة، في ظل تراوح المواقف الرسمية العربية بين العجزوالتصريحات العقيمة، مع المخاوف المصرية من تبعات سيناريو تهجير أهالي غزة في حال تنفيذه. ثمة ما يشي بمشروعية تلك المخاوف، مع التصرفات الحربية للجيش الإسرائيلي، في مطالبته سكان شمال القطاع بإخلاء بيوتهم، ودفعهم إلى جنوب غزة، كمرحلة تستهدف تهجيرهم إلى سيناء المصرية. ما يستحضر إحدى تسريبات بنود صفقة القرن، التي يطلق عليها أميركياً ultimate deal أي الصفقة النهائية، وفق رؤية ترامب وصهره كوشنير، لاستبدال فكرة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، بإقامة كيان منفصل في غزة، يخصص له من نصف مليار حتى مليار دولار، لبناء مشاريع في سيناء تخدم سكان القطاع بعد توسيعه جغرافياً على حساب الأراضي المصرية. بيدَ أن صعوبات وتعقيدات كثيرة تواجه تمرير مثل هذا السيناريو غير القانوني وغير المشروع، من أبرزها: تطورات مسار الحرب في حال لجوء الاحتلال إلى الاجتياح البري، ومدى قدرة المقاومة على إفشاله، عدا عن لاءات الموقفين المصري والأردني المتضررين بصورة مباشرة من سيناريو التهجير. حاولت مصر بناء موقف إقليمي ودولي، يدين العدوان الإسرائيلي ويرفض تهجير الغزيين، لكن قمة السلام التي استضافتها القاهرة لهذا الغرض في 21/10/2023، لم تنحج في ذلك بسبب مواقف المجموعة الغربية الرافضة، لإصدار بيان يحمل تلك المضامين بشكلٍ صريح.
بعد مضي أسبوعين من جحيم الانتقام الجماعي الذي يواجه غزة، ومع اقتراب ساعة الهجوم البري الذي يتوعد به الإسرائيليون، تقف إيران وحليفها حزب الله أمام أكبر امتحان عملي لدور ووظيفة محور المقاومة، في ساعة الحقيقة التي تفرض عليهم ترجمة واقعية؛ لمفهوم وحدة الساحات الذي يتغنون به. في هذا الامتحان تنعدم هوامش التهرب من استحقاقه المُلح بشدة، سواء كان لإيران علم مسبق بعملية طوفان الأقصى، وهو ماتنفيه الوقائع إلى حدٍ كبير، أم وجدت نفسها في مواجهته مضطرةً. فلا مناوشات حزب الله مع قوات الاحتلال في جنوب لبنان، وفق قواعد الاشتباك المضبوطة بينهما، ستُقنع حتى أكثر المعولين عليه من الفلسطينيين والعرب، بأنه قام بواجبه في نصرة أهل غزة بكل ما لديه من إمكانيات بشرية وصاروخية كبيرة. بل على العكس من ذلك سيتضح حتى لأكثر المخدوعين به وبمرجعيته في طهران، بأن متاجرتهم بالقضية الفلسطينية طيلة العقود الماضية، بهدف التغطية على مشاريع الاحتلال والاستباحة الإيرانية لأربع دول عربية، هي الحقيقة الساطعة التي تؤكدها شلالات من دماء السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين. فضلاً عن ذلك لن تخفف دبلوماسية إيران المعهودة في علاقتها مع الأميركان والإسرائيليين، من لعنة الدم الفلسطيني وشلاله الراعف، بحق كل من ادعى زوراُ وبهتاناً، أن الطريق إلى فلسطين يمر عبر القصير وحلب والزبداني، فيما تواجه غزة وحدها حرب إبادتها، وهي تدخل أسبوعها الثالث دون سندٍ أو معين.
المثير للاستهجان، أن ثمة أصواتاً وأقلاماً تتبرأ من واجبها الأخلاقي في التضامن مع غزة المدماة والمنكوبة، بذريعة وجود شبهة استثمار إيراني في ما يجري في غزة، بل إنها تتمنى أن تتأكد لها فرضيتها في الاستثمار، وإن كان الثمن نسف غزة وإحراقها. يتلاقى مع هؤلاء المغشى على أبصارهم وضمائرهم، رهط من أصحاب الوعظ والتنظير الثقافوي، المتمثل في إلقاء الملامة والمسؤولية على تيار الإسلام السياسي في فلسطين، بسبب نفورهم الفكري والإيديولوجي منه، وإسقاط تجاربه في سورية وغيرها، على تجربته الفلسطينية في نسختها المقاومة. يتعامون عن لا عقلانية أشر احتلال في العصر الحديث، على أنها بوعيهم المهزوم قدرٌ لا يمكن ردّه، رغم ثبوت تمسكه بإنكار حقوق الفلسطينيين على طول الخط. بينما تغدو مشكلة أولئك الغارفون من منهل “المعايير العمياء” في إدانة لا عقلانية الطرف الفلسطيني لمجرد تمسكه بالمقاومة كمبدأ مشروع، في الدفاع عن ضحايا الاحتلال والاستيطان والحصار. كل ما في جعبتهم مزيد من الهراء عن مطالبة الفلسطينيين بالصبر على تآكل وجودهم وحقوقهم، وانتظار فرصة تسوية سياسية للصراع، لن تأتي أبداً في حال سكوت الفلسطينيين على مشروع تصفية قضيتهم، الجاري على قدمٍ وساق برعاية أميركية لاتعوزها الصفاقة.
المفارقة المؤلمة أيضاً، أن يقوم أصحاب الضمير الحر في المجتمعات الأوروبية، بكشف الأكاذيب التي لفقتها الرواية الصهونية في الغرب، عن قيام “الحمساويين” بقطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء خلال عملية 7 تشرين اول/أوكتوبر، وإصرارهم على رفض سياسات حكوماتهم الداعمة لإسرائيل، ومسؤولية الأخيرة عن المجازر المتنقلة في غزة، وقد أخذت تتعالى أصواتهم في المظاهرات الداعمة لفلسطين خلافاً لمواقف حكوماتهم. فيما نجد أصواتاً متصهينة، ترى في مغازلة إسرائيل والصمت على جرائمها، على حساب أشلاء أطفال غزة، ما سيمنحها أدواراُ سياسية ومكاسب رخيصة في القضايا التي تدّعي الدفاع عنها، وهي بذلك لاتختلف عن الأنظمة التي تحمي حدود إسرائيل، وإن ادعت عكس ذلك، ومثالها الأكبر النظام الأسدي.
غزة الجريحة والموجوعة والصامدة، بقدر ما فضحت عهر المجتمع الدولي، وازدواجية معاييره ونفاق القابضين على قراره، تُعيد الوطنية الفلسطينية اليوم إلى بوصلتها الصحيحة، وهي وحدة الشعب الفلسطيني على حقه في المقاومة، ودفاعه عن حياته وحريته، وتشبثه بروايته وحقوقه جيلاً وراء جيل. درس غزة المضمخ بالدم لمن يفهم لغة شعبه جيداً، إن الوقت الآن ليس للتشويش على أصل الصراع، وحرف الأنظار عن مرامي العدوان، وإنما لتعزيز وحدة الإرادة والموقف والقرار، وإن التفاف الفلسطينيين دفاعاً عن محاولات شطب قضيتهم، واتفاقهم على رفض التضحية بأوراق قوتهم، هو ما يفتح مستقبلاً على أفقٍ وطني جديد، يتجاوز الانقسام والصراعات الداخلية العبثية.
غزة التي أعادت للقضية مكانتها المركزية في ضمير الشعوب العربية، وأحقيتها وعدالتها في ضمائر أحرار العالم، لن تهزمها كل جحافل الاحتلال مهما تكالبوا عليها، وستبقى (ترموموتر) النبض الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، وفي الداخل الفلسطيني، وفي دول اللجوء والمنافي. اليوم تسطّر نفسها مأثرة في الصمود والمقاومة لكل طلّاب الحرية والخلاص. لا غرابة لمن يتشاركون وحدة المعاناة والكفاح والمصير، أن يشعروا بغزة في كل خلجة من خلجاتهم، وهذا حال السوريين الأحرار في كل مكان.